أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أُعاني في تناوُلي ذلك الكتابَ ظاهرتين تُؤلمانِنِي: الأولى أنني لم أطَّلِعْ مبَاشرةً على شيىءٍ من كُتُبِ (توما الأُكْوِيْنيُّ) سِوى ما ذكَر المُترجمون أنَّه أهَمُّها: وهو (كتابُ الخلاصَةِ).. وأُخراهما أنني لا أَحْذِقُ شيئاً مِن لغات العالَـمِ؛ وإنَّما كنتُ مُتمكِّناً في اللغة العربيَّةِ الْفُصحَى، وذُيولِها من اللهجات العامِيَّةِ.. ولقد عَرَّفْتُ في الأسبوعِ الماضي بكتاب الخلاصةِ المطبوعِ بالمطبعةِ الأدبية في بيروت عام 1887 ميلادِيّْاً بمقدِّمَةِ (الخوريُّ بولسْ عَوَّاد)، وأَفَدْتُ مِن التَّرْجماتِ إلى العربية مِن أمْثالِ يوسف كرم، وكُتُبِ الموسوعاتِ.. ولا ريب أنَّ الاسْتِخْلاصَ مِن عددٍ من التَّرجماتِ لموضوعٍ مُعَيَّنٍ يُـحَقِّقُ الْعِلْم اليقينِيَّ بمقاصِدِ صاحب الكتابِ الذي جَرى تعريفُ الترجماتِ به؛ وفي قِمَّةِ مَنْ أَفَدْتُ منه ما استوعبتْهُ الأستاذةُ الدكتورة زينب محمود الخُضَيْرِي؛ وقد أنكرتُ في الأسبوع الماضي حذْفَ تاء التأنيثِ؛ إذْ يقول كثير مِن المعاصرين عن الأنثى (الأستاذُ الدكتور)؟!.
قال أبو عبدالرحمن: هذا تَغْيِيْرٌ لخلْقِ الله باللسانِ والاعتقاد وإنْ خَسِئَتْ الجوارح عن هذا التَّغْيِيْرِ إلَّا في مِثْلِ ابتداعِ الجنس الثالث؛ وإنما أنكرتُ التغيير باللسانِ والاعتقاد إشفاقاً على مَن خلَقَهم الله ذُكُوراً قَوَّامِين على النساءِ بما فضَّل الله بعضَهم على بعض؛ ذلك أنَّ الضِّدَّ يُعْرَفُ بالضدِّ، ومِنْ ثَمَّ يَسْتَنْوِقُ الجمَلُ؛ فَسَيُقالُ: الأستاذةُ الدكتورةُ مُـحَمَّدٌ، أو الأستاذةُ الدكُتورة هاني شاكر؛ فهذه دُعابَةٌ خفيفَةٌ أرجو أنْ يَتَحَمَّلَها قُرَّاءُ الجزيرة؛ لِيُخَفَّ عليهم استيعابُ تعقيداتِ (توماسُ الأُكْوِينيُّ)؛ فقد تَساأَلَ: (هل تَمَسُّ الحاجَةُ إلى تعليمٍ غيرِ التعاليم الفلسفيةِ)، (وهل التعليمُ المقدَّسُ عِلْماً) كما في الخلاصة 1/10-15؛ وسأظَلُّ ما دامَتْ في العمرِ فسحةٌ إنْ شاء الله تعالى أتناولُ التحقيقَ والتدقيقَ في كلِّ المسائلِ المسطورةِ في كلِّ المجلداتِ الثلاثةِ من الخلاصة؛ فأمَّا مَدى مسيسِ الحاجةِ إلى غير التعاليم الفلسفية: فقد عالج (توماس الأُكْوِينيُّ) ذلك بقوله في الخلاصة 1/1- 24: ((ولابدَّ لتعيين غرَضِنا، وتحديده من تقديم النَّظَرِ في أنَّ التعليم المقدس: أيُّ شيىءٍ هو، وماذا يتناول؟؟.. والبحثُ في ذلك يدور على عشر مسائل: في الحاجة إلى هذا التعليم، وهل هو علم، وهل هو واحدٌ أو كثيرٌ، وهل هو نظريٌّ أو عمليٌّ، وما مُقايستُه بسائر العلوم، وهل هو حكمةٌ، وهل اللهُ هو موضوعهُ، وهل هو استدلاليٌّ، وهل ينبغي فيه التجوُّزُ والرَمْزُ، وهل ينبغي تفسيرُ كتابِه المقدَّس على معانٍ كثيرة؟؟؟؛ فتلكَ عَشْرُ مسائِلَ؛ فقال عن المسألةِ الأُوْلَـى: يظهر أَنَّه لا تمسُّ الحاجةُ إلى تعليمٍ عيرِ التعاليم الفلسفية؛ إذ ليس ينبغي للإنسان أنْ يُـحاولَ إدراكَ ما فوق العقل كقوله في (سي3: 22) ((لا تبحث عمَّا يتجاوز قدرتَك))؛ والتعليماتُ الفلسفيةُ مُتكفِّلةٌ بجميع ما تحت العقل؛ فإذن يظهر أنْ لا فائدةَ في تعليمِ غيرِ التعاليم الفلسفية.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا جَعَلَ (توماس الأكويني) التعاليمَ الفلسفيةَ بمعنى العقلِ؛ ولهذا حكَمَ بأنَّ الحاجةَ غيرُ ماسَّةٍ إلى تعليم غيرِ الفلسفة؛ وهذا وَهْمٌ شنيع؛ لأنَّ العقلَ؛ (وهو نور الله الفطري) : هو الذي جعله الله شرطاً للتكليف؛ وهو الذي يُدْرِك دلالةَ آياتِ الله في الأنفسِ والآفاق.. وأما الفلسفةُ فَتُطْلَقُ إطلاقين: أحدهما خاطىءٍ: وهو استعمالُـها بمعنى العقلِ، وأخراهما صحيح: وهو استعمالها بمعنى (اللاهوتُ الطبيعيُّ) المقابِلُ اجتهادَ أهْلِ المذاهِبِ المتبوعة عند علماء المسلمين؛ فليستْ إذا تعارضتْ تكون حقّْاً كلَّها؛ فهذا معنى كونِـها لاهوتاً طبيعياً؛ وأما (اللاهوتُ الْإِلاهيُّ) فهو دلالةُ كُتُبِ الكُتبِ المقدَّسةِ من التوراة والإنجيل والقرآنِ الشاهدِ لها، النافيْ لِما فيها من تبدِيلٍ أو إضافةٍ أو إسقاطٍ أو تفسيرٍ يعني تحريفَ الكلمِ من بعد مواضعه.
قال أبو عبدالرحمن: أمَّا ترجمةُ المنتمين إلى القبلة في ترجمتهم كُتُبَ الأوائلِ باللغة العربية: فإنني أُعْرِّج على كتب ثلاثةٍ لابن رشد الحفيد قالت عنها الأستاذة الدكتورة زينب في كتابها (أثرُ ابنِ رشد) ص 117- 120: ((هي: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، وهو أهُّمها جميعاً، و(الكشف عن مناهج الأدلة عن عقائد الملة)، و(تهافت التهافت))).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الكُتُبُ الثلاثةُ لا تَرْفَعُ مستوى ابن رشد في التحقيقِ والتدقيق وحُسْنِ التأليف؛ وإنَّما يُظْهِرُ عبقرِيَّتَه كتابان هما (بدايةُ الْـمُجْتَهِدِ) الذي ألَّفَهُ قبْلَ تَوَحُّلِهِ في دعوى التَّجْهيلِ، وأنَّ القرآنَ الكريمَ نزل لِـمُخاطبةِ العوامِّ، وأنَّ الفلاسفةَ يعلمونَ مُرادَ الله بعقولهم الفلسفيَّةِ؛ وتلك نعمةٌ حُرِمَ منها الصحابةُ رضِيَ الله عنهم والفقهاءُ.. سبحانك ربَّي هذا بهتان عظيم.. والكتابُ الثاني هو شرحه منطق أرسطو، ولا سيما السِّفْرُ الخامِسُ الأخيرُ عن الأدِلَّةِ المَغْلطائِيةِ (؛أي السوفسطائية)؛ فقد حقَّقَ أنَّ منطقَ أرسطو لعصمةِ العقلِ من ضلالِ سوفسطائيَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وليس لعصمتِه بإطلاق؛ وهذا هو الحقُّ؛ لأنَّ عِصْمَتَهُ آتِيةٌ ببراهين الله في الأنفسِ والآفاق؛ وإنما فَرِح بكتبه الثلاثةِ العقيمة أكثرُ المعاصرين ولا سيما ضحايا التثقيفِ الجنوبي؛ ولهوى النفوسِ سريرةٌ لا تُعْلَمُ.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.