د. خيرية السقاف
تخيل نفسك عربة «أجرة»، تقطع المسافات تلو الأخرى في اليوم، عدد ساعاته, ولحظاته..
تركن لبضع وقت طارئ أو تلقائي؛ حتى يجدد سائقك راحته, ونشاطه..
أو يتفقد وَقودك وماءك, عجلاتك وزيت محركاتك..
ثم يبدأ معك رحلة يوم جديدة في التنقل بين الطرقات..
تخيل كم من الناس سوف يستقلونك لحيث وجهتهم بك..
كم منهم يوجه مسارك لمصحة, ويأخذك إلى محطة رحيل أو عودة، أو إلى متجر خضار, وملابس, وأثاث, وبناء, وبحث..
كم تأخر عن عمله لحاجة فتأخذه بلا عناء, أو بك يستنجد لعطل يحلُّ بمركبته الخاصة، يوقِفه حيث لا حيلة فتنشله من ورطته..
كم فيهم من غريب في مدينة لهاثك المكوكي, وكم منهم يبحث عن قريب, وصديق..
كم منهم يتكلم بما لا يفهم سائقك, كم منهم مهذب نظيف, وكم منهم وقح لئيم.
كم مرتَّب منظَّم دمث.. وكم مستهتر فوضوي بذيء الخُلُق..
كم هادئ رصين, وكم عصبي منفلت..
كيف هي أثقالهم, وبضائعهم, وألوانهم, وطبائعهم, وأسلوب تعاملهم, وأصواتهم, ونوع عطورهم, وروائحهم؟..
ما تقول عمن يجادل في تسعيرة ركوبك؟
أو تقول عن مستخدميك باختلافهم, وغاياتهم؟
ما اتجاهاتهم التي تحصد أهدافها, ووجهاتهم التي تتعرف نهاياتها؟..
لو كنت عربة «أجرة» ما الحكايات التي تخزِّنها عن الناس؟..
وتكتبها عنهم, وتفضي بها في الجهر عن أشيائهم الصغيرة, في الدقائق المعدودة التي تمضيها في معيَّة الراكبين صهوتك؟
أليست سجلاً شاسعًا دقيقًا صادقًا عن الإنسان في صوره التي لا يلتقطها غير جوفك السَّاكت, وذاكرتك الحديدية؟!..
أوَ ليست هذه الذاكرة لا يُصهرها غير النار؟..
أوَ لو كنتَ عربة «أجرة» تميل لأن تكون نهايتك الإحراق؟!
لأنك أنت بين كلِّ شواهد الوجود على الإنسان الشاهد المنسيُّ في الخاتمة!!..