أ.د.عثمان بن صالح العامر
عمر طفل لم يجاوز العاشرة من عمره، يجلس بجوار والده في الطائرة المتجهة من مدينة خارجية لأخرى، حين حطت الطائرة في المطار، أيقظه والده مبلغاً إياه أننا وصلنا بسلام.
سأل الصغير أباه من باب التأكد ليس إلا -كعادة من في سنه غالبا-: (يبه وصلنا؟).
رد الأب: نعم، ألا ترى الطائرات تقف هنا، هذه طائرة كويتية.
الابن: أين؟ هذه الزرقاء؟
الأب: نعم، وهذه سعودية.
الابن: (يبه الطيارة بكم تشتريها؟ أنا إذا كبرت أبي أشتري طيارة).
تساءلت حينها عن هذا الطموح الصبياني الذي ينمّ عن ثقافة مشبعة بالرغبة في حب التملك، ويتكئ على اعتقاد لاشعوري مغروس داخل ذواتنا- وإن لم نتفوه به- أننا خُلقنا نحن وأبناؤنا من بعدنا خلقاً آخر، نشتري ولا نصنع، نُخدم ولا نَخْدِم، ننتظر كل عام الجديد في عالم الموضة الذي يدغدغ مشاعرنا، ويتلاعب بعقولنا، ويستخف بإنسانيتنا، ويسلب أموالنا (ملابس، سيارات، جوالات، كمبيوترات، أثاثا...) من أجل أن نكون أول من يمتلك هذا المنجز العالمي الذي تفتق عنه وسجل براءة اختراعه عقل هندي أو صيني أو بنغلاديشي أو أمريكي أو روسي أو أوروبي أو... المهم أنه غير عربي.
كم كنت أتمنى أن تتغير لغة أطفالنا بسن «عمر» من «أشتريها، من أجل أن أمتلكها»، إلى: «أنتجها من أجل أن يشتريها الآخرون مني».
نعم، نحن جيل غلبتنا سياسة الإغراق المخطط لها بإتقان، فسلبتنا كل شيء، حتى مجرد التفكير بأن ننتج ونصنع، بل عَدَدْنا الصنعة عيبا اجتماعيا مقيتا، انغمسنا في الاستهلاك غير المرشّد فصرنا أسارى الآخرين في كل شيء للأسف الشديد.
الجديد اليوم أن رؤية 2030 تطالب وزارة التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة في المملكة العربية السعودية أن تحمل على عاتقها همّ تغيير ذهنية هذا الطفل ليكون طموحه المستقبلي الإنتاج لا الشراء، التصنيع لا الامتلاك، وهذا جزماً ليس بالأمر الهين، ولا يمكن أن يتحقق إلا بتغير الذهنية المجتمعية التي تقدس اللعب في خانة الاستهلاك على حساب الإنتاج والاستثمار وكذا الادخار، حتى صرنا نقيس الإنسان بما يمتلك لا بما ينتج ويصنع للأسف الشديد.
إن المتمعّن بالرؤية يلحظ أنها جاءت محاولة جادة لإعادة بناء الإنسان السعودي منذ لحظة ميلاده إلى أن يُوارى التراب، حتى يصبح مواطناً صالحاً منجزاً ومتفاعلاً مع معطيات الواقع التنموي الطموح الذي لا يرضى بالبقاء في خانة الاعتماد على مصدر وحيد للدخل القومي، بل يوظّف كل ما لديه من موارد مادية وبشرية في دفع عجلة التنمية الوطنية نحو دائرة المنافسة العالمية الحقيقية لا المفتعلة، خاصة وأن بلادنا تزخر -ولله الحمد والمنة- بطاقات وقدرات وعقليات شابة واعية ومتّقدة، باستطاعتها- بعد عون الله وتوفيقه ثم دعم ومساندة وتوجيه ولاة الأمر- المضي قدماً بجيلنا الجديد نحو ما تتوق له نفس كل سعودي عزيز، ومن ثمّ يصنع الفارق بين جيلين، وهذا ما عرّج عليه وذكره صراحة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز نائب خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله ووفقه ورعاه- في مقابلته التاريخية مع قناة العربية قبل أكثر من عام.
إنكم ولدي «عمر» أمام معركة الوجود المصيري: «تكونون أو لا تكونون « فاخلع عن رأسك أنت وأبناء جيلك قبعة «المشتري» والبسوا بدلاً منها قبعة «المنتجين « الذين يطمحون لصناعة الطائرة لا لشرائها. وفقكم الله ويسر سبيلكم، وجعل المجد لكم في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.