د.علي القرني
نعود إلى موضوع المقال السابق عن «وهم» الموضوعية في قناة الجزيرة، وكيف أن شعار الرأي والرأي الآخر هو مجرد شعار، وهو مجرد وهم. ولا شك أن محاولة إطلاق مثل هذا الشعار قد أوهم المشاهدين أن قناة الجزيرة ابتدعت فلسفة جديدة للإعلام العربي منذ تأسيسها لم تكن موجودة في النظام الإعلامي العربي، ولكن الحقيقة واضحة لدى المختصين في الدراسات الإعلامية النقدية.
والفرضية الأساسية للموضوعية هي الانفصال عن الحدث من قبل المؤسسة الإعلامية، بمعنى الخروج الكامل من التفضيل لأي طرف من أطراف النزاع أو الصراع. وهذا طبعا غير متوفر إطلاقا في أي تغطية من تغطيات قناة الجزيرة منذ تأسيسها إلى اليوم. كما أن من افتراضات الموضوعية assumption هو البحث عن الحقيقة باعتبارها كينونة محورية في مبادئ الموضوعية، وهذا ليس منطبقا على قناة الجزيرة، لكون حقائقها ملونة وتتشكل وفق مصالح المؤسسين للقناة والداعمين لها والممولين وهي الحكومة القطرية.
وهنا للتوضيح ولربط موضوعنا بأدبيات الموضوعية في الفكر العلمي والنقد الإعلامي سنجد أن هناك محاور وأبعادا للموضوعية، ومن أهمها ثلاثة أبعاد أساسية، هي (1) البحث عن الحقيقة؛ (2) الحيادية؛ (3) الانفصال عن الحدث. وإذا توافرت مثل هذه الأبعاد في بنية الفكر الإعلامي للوسيلة الإعلامية يمكن أن تصل إلى تغطيات موضوعية، أو ما يمكن يكون تطبيقا حقيقيا لشعار الجزيرة (الرأي والرأي الآخر). ولكننا نرى أن هذه الأبعاد والمفاهيم منعدمة في قناة الجزيرة على مر القضايا والموضوعات التي تطرحها.
وإذا قارنا فقط بين حدث غطته قناة الجزيرة ونفس الحدث غطته شبكة إلى BBC سنجد فرقا كبيرا بين التغطيتين، وسيتضح مباشرة تفضيلات قناة الجزيرة من بين أطراف الحدث، بينما تغيب مثل هذه الصورة تقريبا في تغطيات قناة BBC الإنجليزية بالتحديد. وعلى الرغم أن الدرجة الكاملة للموضوعية غائبة في كل وسائل الإعلام في العالم، لكن درجتها تختلف من وسيلة إعلامية لأخرى، وبين نظام إعلامي ونظام إعلامي آخر، وبين ثقافة وثقافة أخرى.
وربما أن أهم نقد للموضوعية في كل وسائل الإعلام بما فيها تحديدا قناة الجزيرة بحكم أدلجتها، أن اختيار الموضوعات والأحداث هو أحد أسباب الطعن في الموضوعية، فإذا نظرنا على سبيل المثال أن نشرة أخبار قناة الجزيرة قد استدعت عشرة أخبار وغطتها، فإن المسكوت عنه في هذه التغطية هو الأخبار التي لم تستدعيها قناة الجزيرة في نشراتها، مما يعني أن الانحياز الإيديولوجي قد بدا فعلا من مرحلة اختيار الموضوعات والأحداث.
وباحث في القرن الماضي كان يبحث في الأخبار التي لم تجد الاهتمام من وكالات الأنباء، فقام بجمع الأوراق التي يقذف بها المحررون في سلات المهملات في غرف الأخبار، وقام بتحليلها في إحدى وكالات الأنباء العالمية، ووجد أن 90% من الأخبار التي ترد لهذه الوكالة من مراسليها ومن مصادر مختلفة قد تم رفضها لأسباب مختلفة، وبهذا وصل إلى نتيجة أن المحرر هو الذي يحدد الأحداث التي يراها القارئ أو المشاهد أو المستمع. وقناة الجزيرة هي في نفس الاتجاه حيث هناك أخبارا لم تصل ولن تصل إلى مشاهدي القناة بحكم الفكر الإيديولوجي للقناة الذي يستبعد أخبارا أو أحداثا ويقدم عليها أخبارا وأحداثا أخرى.
وصحيفة نيويورك تايمز تضع لها شعار news that fit to print الأخبار التي تتناسب مع النشر، وهذا الشعار تم انتقاده كثيرا على مر تاريخ الصحيفة، فهناك أخبار تتناسب مع النشر ولكنها لم تنشر، وهناك أخبار تم تجاهلها بالكامل. وقناة الجزيرة بحكم وجودها في منطقة الشرق الأوسط التي تحفل بالكثير من الأحداث، تعمل على عنصر «الانتقائية» في الأحداث وهو أحد أهم أسباب نقض شعار الموضوعية في هذه القناة.