د. محمد عبدالله العوين
إن من أعجب الأمور وأكثرها غرابة أن وزارة المعارف في زمن مضى كانت تكافئ طلاب المرحلة الابتدائية بمبلغ عشرة ريالات وأربعة قروش! لتحفزهم على الدراسة، ثم ازداد إقبال الطلاب حتى أصبحت أعدادهم بالملايين فتوقف التحفيز بطبيعة الحال، وانتقل إلى طلاب الجامعات لترغيبهم ومساعدتهم على التفرغ لطلب العلم.
كانت وزارة التعليم العالي تفعل ذلك ولا زالت وزارة التعليم التي خلفها على الطريق نفسه سائرة؛ ولكن أمام ما يحدث من اعتذارات لآلاف الطلاب عن القبول للدراسة الجامعية أخشى أن يتسرب للوزارة وهم خاطئ للتزهيد في التعليم الجامعي وللتخفيف من الضغط على الجامعات بقطع مكافأة طلاب الجامعة، ولو حدث هذا فإنه والله كارثة كبرى على مئات الآلاف من الطلاب الذين لا يجدون مصدر عيش سواها؛ بل إن كثيرين منهم يتبرعون بنصفها لأهلهم كما سمعت.
ليست المكافأة هي القضية في هذا المقال؛ ولكنها جاءت عرضا كمحفز قديم أخشى عليه أمام طوفان الاعتذارات بالجملة من طلاب حققوا نسبا عالية ممتازة في التراكمي والقدرات، وقد علمت أن بعض من وصلهم اعتذار بالإيميل كانت نسبهم تتراوح في التراكمي بين 92- 95 والقدرات ما بين 75- 80، ولا أدري كيف سيستطيع آباؤهم أو آباؤهن تحمل تكاليف تعليم أبنائهم أو بناتهم تعليما جامعيا مرهقا، أو كيف يمكن تحمل أبنائهم عاطلين عن الدراسة أو العمل الذي يصعب اليوم الحصول على فرصة منه في القطاع الخاص أو العام.
لقد وضعت تحديات وعقبات كبيرة أمام طلاب هذا الجيل - أعانهم الله - وكأنها تحد لقدراتهم بكثرة الاختبارات والقياسات؛ ولكنهم تجاوزوها وحققوا نسبا عالية وتقديرات ممتازة؛ ويفاجأون بعد تلك التحديات بمن يقول لهم: لا تتعلموا، يكفي ما حصلتم، اذهبوا إلى أسواق العمل، اشتغلوا مهنيين وحرفيين!
أن تتعلم الأجيال تعليما جامعيا وعاليا مطلب حضاري لكل أمة، وهو حق مكتسب لكل مواطن، وكان من المفترض أن نستمر في تشجيع أبنائنا على مواصلة تعليمهم وأن ندفع بهم إلى التخصصات التي تفتح لهم أبواب العمل ويستفيد منها مجتمعهم، فلا يمكن أن ينهض مجتمع يدفع أبناءه إلى الزهد في التعليم، وقد لحق بالاعتذار من الجامعيين اعتذار آخر للراغبين في الدراسات العليا عن بعد أو بالانتساب في كثير من جامعاتنا، وهو أمر غريب حقا، فليس من الصواب إغلاق هذا الباب؛ بل معالجة جوانب الضعف فيه والالتزام بشروط التعليم العالي الصارمة التي لابد من تطبيقها على جميع المتقدمين؛ لا كما كان عليه الأمر سابقا؛ من يدفع يتم التساهل معه في باب التعليم الموازي، وكأنه يشتري شهادة الماجستير شراء بما دفع فسهل أمره وخفضت الشروط إلى الحد الأدنى في القبول وفي البحث.
لنتخيل لو لم يكن لدينا منذ عشر سنوات مشروع خادم الحرمين الشريفين الرائد والعظيم للابتعاث، ماذا كان يمكن أن يحدث ؟ وهل ستستوعبهم جامعاتنا الحكومية والأهلية معا ؟!
إن الحل ليس في الاعتذار بالجملة؛ بل بإنشاء جامعات جديدة تستوعب الأعداد المتزايدة في مناطق المملكة كافة، وبناء قاعات الدرس الجامعي بسعة كافية تستوعب كل قاعة ما بين 500- 600 طالب، ويكفي أستاذ واحد لمادة واحدة محاضرا أمام هذا العدد الكبير كما هو الشأن في الجامعات الكبرى في العالم، وبخاصة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية كجامعة القاهرة مثلا.
إن تصميم قاعات الدراسة الجامعية على هيأة فصول كما هو الشأن في المرحلتين المتوسطة والثانوية مضيعة للوقت ولجهد الأستاذة وإثقال لجدول المحاضرات واستهلاك لعدد أكبر من الأساتذة.
لا أتخيل كيف هي مشاعر شاب متدفق بالآمال والتطلعات مجتهد ومثابر وحقق تقديرات ممتازة في دراسته الثانوية ثم يظل حبيس المنزل لا دراسة التحق بها ولا عملا يقضي فيه نهاره ويكتسب منه خبرة ومالا؟!
مثل هذا الشاب آلاف من العاطلين من الدراسة والعمل لا ندري أي أيد سيئة خبيثة أو نوايا غير راشدة يمكن أن تتخطفهم.