د. محمد عبدالله الخازم
انتهت مهمتي العملية الرسمية في دولة كندا، وقد بدأ ارتباطي بهذا البلد الجميل منذ العام 1992م كجزء من تدريبي الجامعي، آنذاك. كانت أول رحلة عبارة عن مغامرة طالب، قرر أن يذهب لاكتشاف أرض الأحلام التي يسمع عنها وحيداً بدون مساعدة من أي جهة رسمية أو حتى أفراد يعرفهم في كندا. ورغم أن الرحلة لم تتجاوز ثلاثة أشهر، إلا أنها كانت مفتاح علاء الدين الذي أسهم في مساراتي المستقبلية، وليس أقلها العودة إليها مرة ثانية كطالب دراسات عليا لمدة أربع سنوات وثالثة كموظف أكاديمي دبلوماسي لمدة أربع سنوات أخرى. سنوات شهدت خلالها تطور هذه الفاتنة محاولاً سبر تفاصيل التطور التنموي والإنساني وما يشوبه من صعود وهبوط!
أغادر كندا وهي تحتفي بمرور 150 عاماً على وحدتها، تفرد تاريخها، تتباهى بقيمها، تستعرض إنجازاتها، تداوي مواجعها التاريخية وتستشرق مستقبلها. يعتقد البعض أنني أبالغ في استحضار والكتابة عن كندا. الأمر لا يخلو من الصحة ومنبعه ليس العاطفة فقط، بل الرغبة في الإشارة إلى نموذج يستحق أن نتعلم من سياساته في العديد من أوجه الحياة، الاجتماعية والتنموية بالذات. كندا كمقاطعات وجامعات عمرها أكبر من تاريخ وحدتها، عدد سكانها ارتفع من ملايين حتى وصل 35 مليوناً، ذات نظام يغلب عليه الطابع الاجتماعي... وغير ذلك مما يجعلها ضمن أهم الدول التي تقاربنا في بعض الجوانب وتستحق استلهام تجربتها والتعلم منها. رغم ذلك، للأسف، حضورنا فيها متواضع فيها، باستثناء أطبائنا المتدربين وقلة من طلابنا فيها.
لم نستطع تكريس حضورنا الثقافي والسياسي في هذا البلد، ولم نكتشف نقاط قوته وظللنا على الدوام تبهرنا دول أخرى بعض تجاربها قد لا تناسبنا. يحصل الخلط هنا في عدم فهم ما نريده في كل مجال وبالتالي تطوير العلاقات مع الدول وفق مميزاتها وكفاءتها في مجال ما. على سبيل المثال؛ هناك دولة تعتبر قوية في مجال تصنيع الأسلحة والتقنية ولديها تأثيرها السياسي الكبير، وجميل التعاون معها في مجال قوتها. لكنها في نفس الوقت دولة رأسمالية سياساتها الاجتماعية ليست الأفضل في مجال العدالة الاجتماعية والاهتمام بذوي الدخل المحدود والعناية الصحية للجميع والعمل التعاوني وغير ذلك. هنا تكون الأولوية في التعاون والتعلم من دول متميزة في تلك المجالات الاجتماعية والتنموية من دولة مثل كندا.
كندا ليست مجرد أرض قارة، غاباتها تعادل مساحة فرنسا وتصدر الأخشاب، لديها أطول طرق السكك الحديدية، تملك البترول وتحوي أكبر مسطحات مائية عذبة، بل هي بلد ذو قيم عالية تجعلني أعجب بها على الدوام. قيم مثل قبول الآخر والتنوع ودعم السلم والعناية بذوي الدخل المنخفض.. الخ. كندا على مدى سنوات عديدة تأتي ضمن أفضل خمسة بلدان على مستوى العالم يرغب الناس العيش فيها، وجدير بنا أن نسأل؛ كيف ولماذا؟ كما هو جدير بنا التعلم من هذه التجربة التي يقدرها العالم والاستفادة مما تحمله من إيجابيات..
وداعاً للبلد الذي تعلمت منه الكثير وحتماً لن يكون الوداع الأخير للأصدقاء في كندا.