د.فوزية أبو خالد
كلما خافت البراعم عبر العالم العربي ملمس الأيدي الخشنة المستعجلة على قطافها قبل أن ترفع رؤوسها وراودها الردى للتراجع عن التفتح والعودة إلى العدم، أطلت أرض فلسطين من الحلم من القصائد من دعاء الأمهات من براءة الأطفال من جب الظلم من غياهب التاريخ من شرفات المستقبل من مواكب الشهداء من شجر الزيتون من شجاعة الشباب ورشت البراعم الخائفة بإكسير اسمه المقاومة لتجدد فينا وفيها إرادة الحياة.
كلما أدلهمت الظلمة في عالمنا العربي وأطبق المحاق وصرنا لا نميز الأعداء من الأصدقاء هبت من أرض فلسطين شرارة مقاومة تأبى التعود على العمى السياسي والعنف العسكري وتعيد الاعتبار لضوء صغير اسمه بارقة الأمل.
إن وقفة الأقصى يوليو صيف 2017 م بعد خمسين عام أي نصف قرن من احتلال دولة الاستعمار الاستيطاني االإسرائيلي للقدس الشرقية بما فيها المسجد الأقصى ورفع علم الاحتلال الصهيوني على قبة الصخرة ومنع المصلين من دخول المسجد الاقصى يونيو 1967م، تقوم بكتابة تاريخ الأوطان إذا أرادت ألا تخرج من التاريخ وأن لايحجب حقها في المستقبل. إن الالتفات والالتفاف العالمي ولقواه الناعمة المتربعة على عروش العشوائيات وأرصفة الشوارع الرثة عبر القارات حول انتفاضة الأقصى على منع الآذان والصلاة في القدس ليس مجرد موقف احتجاج على وحشية إجراءات الفصل العنصري وليس مجرد تعبير عن بعض مطالب الحياة الإنسانية الضرورية التي يحجبها العدو الصهيوني عن شعب فلسطين ومنها تنزيه أماكن العبادة عن الصراع بل إنه موقف إنحياز للكرامة الإنسانية ولفعل المقاومة, وموقف تكوين لذاكرة شبابية لم تفتح عيونها إلا على محاولات محو هذه القيم العظيمة عن المسرح الدولي عموماً والعربي على وجه التحديد. فبنات وأبناء العشرين اليوم من الشباب العربي ممن نجت أوطانه من طائلة الدمار الشامل والفوضى القاتلة الذي ضرب المنطقة مع مطلع الألفية الثالثة للقرن الواحد والعشرين ومعهم شباب المنطقة الذين ذاقوا ما أنساهم حليب أمهاتهم من مرارات التدمير المنظم لأرضهم ومستقبلهم لا يملكون تلك الذاكرة التي تملكها الأجيال السابقة ليقبضوا على شمعة الأمل ولو في الخيال. فهؤلاء الفتية والشباب لم يروا عراق الأبجدية السومرية الأولى ولا عراق الحضارة العربية الإسلامية ولا عراق الثورة على الاستعمار الإنجليزي ولا عراق العلماء ولا عراق السياب ولميعة عمارة ونازك الملائكة ولا عراق الخروج على التخلف, إنها أجيال لم تر اليمن السعيد إلا يمن غير سعيد وبائس ومستضعف، جف فيه سد مأرب وأغمض فيه البردوني عيناه وتفرقت فيه دماء مسلة الحقوق الحمورابية بين طوائف وقبائل عمياء.. بل إن هذه الأجيال لم تفتح عينها إلا على مشاهد الشاشات الملطخة بالدم والإذلال والأنقاض.
إن بنات وأبناء الخامسة عشرة اليوم لم يروا سوريا بلاد المشمش والياسمين وقصائد نزار قباني وانتفاضات الماغوط وممدوح عدوان ولا لاذقية البحر والشمس ولا حلب بلاد الفن والجمال ولا الشهباء في مقاومتها الفاتنة للاستعمار الفرنسي وقبضات العسكر.
بنات وأبناء الأجيال اليافعة اليوم لم تر ليبيا بلاد عمر المختار ولا الجزائر منبع جميلة بوحيرد. هي أجيال لم تفتتن بفلسطين بلاد المقاومة والشهداء وأطفال الحجارة بلاد شعر محمود درويش وروايات سحر خليفة وألحان الرحبانية ومرسيل والقدس زهرة المدائن وأميل حبيبي جنباً إلى جنب مع الشيخ أحمد ياسين.
وربما لكل ذلك جاءت مقاومة المقدسين ضد إغلاق المسجد الأقصى ومنع الأذان وإقامة الصلاة فيه بمثابة تحدٍّ صريح لتلك الصورة التي تريد أن تُثبت في الإذهان بما فيها أذهاننا وأذهان الأجيال اليافعة بأن العرب كل العرب إما إرهابيون وهمج لا يرومون من الحياة إلا الاقتتال ومحاربة قيم السلام والحرية، أو أنهم مجرد شتات يتوسل اللجوء على أبواب الغرب وبأنهم مشردون في مخيمات حدوية وعالة على شعوب الغير، أو أنهم تلك الحفنة النفطية المستِهلكة الغارقة في غيها وغناها مع استخلاص بأننا ننقسم بين ثنائتين لا ثالث لهما وهي ثنائية القطيع وثنائية الرعاة بما يجعلنا إما رمزاً للاعقلانية و"القرطوسوية" بمعناها السياسي والفكري أو رمزاً للهوان وللاستسلام بمعناها القيمي والسلوكي.
لقد أتت المرابطة الشاهقة حول القدس الشريف بمشاركة عشاق الحرية من أماكن متعددة في العالم تحدياً لصورة العربي إما وحشاً كاسراً أو مدجننا كسير بصورة إنسان لا يريد أن يكون كاسراً ولا يرضى أن يكون كسيراً في نضال يومي سلمي يتحدى جبروت الاحتلال وذل الاستسلام معاً.