د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يلجأ العقل تلقائيًا للاختفاء في نسمات الذاكرة عندما يشتد لهيب واقع الحاضر، فالذاكرة جذور النفس التي تتساقط أوراقها بكل ألوانها في خريفها على مدى العمر. وبعض الذكريات تستعصي على السنين محوها سيما تلك التي حفرتها بدايات التلاقح الحضاري المبكر، بواكير سنين الدراسة في أمريكا. حدث زميل طفولة من جيلنا، جيل سعودية الأمس، لا سعودية اليوم، انتقل لأمريكا قبل بدايات طفرات التحول المدني، فقال: لم أجرب لبس البنطال إلا في المطار، ولم أجد تفسيراً للزبدة التي توضع بجانب الخبز، لم أرها من قبل والتهمتها أخالها قطعة جبن. وعندما أنظر للخلف، أعرف اليوم أنني قطعت سنوات ضوئية حضارية.
تأقلمت بعض الشيء مع البيئة الأمريكية بعد سلسة من موجات الحوار الحضاري المتلاطمة. دخلت الجامعة فألفيتها تختلف عن جامعاتنا. جامعة مفتوحة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كانت مشوقة ومخيفة في الآن ذاته. جدية التعليم فيها لم تمنعها تقديم مواد «كورسات» اختيارية في كل جانب من جوانب الحياة تقريباً. فلسفة الجامعة تتيح للمتعلم أن يحقق ذاته من خلال صقلها، وليس الجامعة تحقق ذاتها من خلال صقل عقليته. كورسات في الرياضات المختلفة، والموسيقى، والفن، والرقص، والديانات وكل ما يخطر للدارس على بال الاطلاع. يتذكر رؤية رجال بشوارب يدرسون مع فتياتٍ الرقص الشرقي، يعتمرون بدلات الرقص المدندشة ويضعون في اصابعهم صاجات التنغيم. مرة أخرى فجع برؤية حلقة دارسين للفن يطوقون امرأة على طبيعتها كحواء يرسمونها من كافة الأبعاد. في هذا الجو التعليمي المنوع لزمه أن يسجل مواد حرة.
واستطرد، ابعاداً للشبهة، قررت، اتباعاً لتعاليم رسولنا الكريم أن أتعلم السباحة كمادة حرة، لا سيما وأنا اعرف الرماية من نعومة اظفاري لأن والدي اشترى لي ساكتون صغيرة اسوة بأبناء عمي الأكبر سناً، تبخترت بها في شوارع حارتنا في الطائف، وأوذيت بها الطيور في رحلاتنا للتنزه. كنت خبيراً في رصاص الساكتون (الصتم) الأصلي من أول نظرة وعن بعد. وكانت والدتي رحمها الله تلومني دائماً على حشر الطيور بدمائها في جيب ثوبي حتى غدت ثيابي مرقطة كجلود النمور. أما ركوب الخيل فقد جربت ركوب حمير مهولة الحجم في شعب عامر في مكة المكرمة في كل عيد على سبيل الترفيه، فقد كانت الأسرة تنتقل لمكة لصيام رمضان. حمير بحجم البغال، كالعير تخالها بسبب فرط الحناء كالخيل المرقطة، وفي خببها رنة كرنة حداء الخيل. أما السباحة فتجربتي تنحصر في الانبطاح مع بقية الأطفال في ساقي الركيب في الطائف، حيث بدت البراغيث كأسماك بحرية ضخمة. كنا نحرك أرجلنا وأيدينا وكأننا نعبر بحيرة كبيرة.
ثم قال، حضرت لمادة السباحة بسروال سباحة منمق ونظارات داكنة حسب طلب المدرب، ووقفت وقفةً جادة كسباح محترف مغرور اتحاشى الالتفات بأي شكل وفي أي اتجاه فنصف الصف طالبات لا يعرفن التستر. وفوجئت أن المدرب طلب من الجميع القفز مباشرة في مسبح لا عمق واضح له، فقفزوا جميعهم، أما أنا فركضت واصطدمت بحافة المسبح التي خيلت لي كجدار عال. ومن حلاوة الروح، بدأت ساقاي تضرب الأرض بقوة وبشكل متتابع ولكن في مكانها. خرج الجميع من المسبح ليقفزوا مرة أخرى وأنا ما زلت في مرحلة الاستعداد. عزلت للتدريب الخاص بعد فشل جميع المحاولات لإقناعي، وأوكل تدريبي لمدرب خاص، مساعد مدرب أو طبيب نفسي لم أعرف بالضبط.
حاول «شان»، مدرب إيرلندي لطيف واسع البال أن يقنعني بالقفز في الماء مرة تلو الأخرى، وبأسلوب بعد آخر دونما جدوى، ألبسني طوق نجاة ودفع بي في الماء على غفلة فوصلت ركبي لإذني من الخوف، وأصبت بتصلب لويحي لا حراك معه. صدم المسكين باليأس لأني ربما كنت أول محاولة فاشلة له في التدريب، وقرر دعوتي لمنزله ربما كي يعالجني نفسيا. دعاني لمنزله لأن زوجته كما قال طبخت عجة بيض، وليمة في نظره. ذهبت وأكلت بكل الاستحياء العربي انتظرهم يحلفون عليّ لآكل المزيد لكن بدون نتيجة، شبعت من هواء الزفير المتسارع فقط. ثم لزمّت عليهم بالدعوة وفرحت لاستجابتهم. فاشتريت كرتونين «رز وأربع دجاج سمان» وطبخت لهم طعاماً يكفي لعشرين شخصاً ودعوت زميلين. فاقتصيت منهم بأن صدمتهم حضارياً بالكرم العربي. أكلوا بلا تلزيم ولا استحياء وكانت بداية صداقة مع إيرلندي متعاطف مع العرب. مرت أيام ونسيت المسبح ونسيت أن احذف مادة السباحة لأني اعتقدت أن لدي الآن واسطة. فرجعت لشان، وكانت هذه صدمته الحضارية الثانية، حيث رجوته ألا يرسبني، فاستغرب كيف أني نسيت أن أحذف كورس السباحة كما أوصاني، وبعد بعض الإلحاح منحني تقدير ناجح مع أني أصبحت أخاف من المغطس بعد تجربة المسبح.