إبراهيم عبدالله العمار
شيء ستلاحظه بكثرة في الكُتّاب: اضطرابات نفسية.
إرنست هيمنغوي مات منتحراً بعد حياة مزّقها مرض الاكتئاب. نفس المصير لقيه الأمريكي هنتر تومسون والروسي فلاديمير ماياكوفسكي والياباني يوكيو ميشيما والإيطالي سيزاري بافيسي والمجري آرثر كوستلر والكثير غيرهم.
غير أن من أبرز الأمثلة هو الأديب الأسكتلندي الشهير روبرت لويس ستيفنسون المولود عام 1850م والمتوفى شاباً بعمر 44 سنة، ونحن نعرفه من خلال روايته جزيرة الكنز التي حُوّلت إلى مسلسل ياباني مدبلج (أنيميه) لا أزال أذكر أنه من أروع ما رأيت. لو جلستَ مع روبرت قليلاً وتحدثت معه لرأيتَ تلك المشاكل النفسية، ويكفي أن تعرف تاريخ عائلته المضطرب، فعمّه دائم الحزن، وابن عم له أصيب بنوبات اكتئاب حادة، وأبو روبرت أيضاً عانى الاكتئاب.
ترى الجانب المظلم من البشرية في أعمال روبرت، فكان كثير الكتابة عن الشر والقنوط والنفاق الاجتماعي، لكن لم يكن هذا مزاجه فقط، بل كان أيضاً يُدرك متعة المغامرة وبهجة الصداقة ولحظات السعادة الصغيرة، وكان يتراوح كثيراً بين المزاج المظلم والمشرق، فيما يبدو أنه اضطراب ثنائي القطب. يقول بعض أصدقائه: «كأن طَرَباً طفولياً يتراقص داخله، يتقافز روبرت على تلال الحياة، إنه يفور جذلاً!»، وقال آخر: «إن أشد الرجال جذباً وحماساً كأنهم جمادات مقارنة بما يشعُّه روبرت من حياة وحرارة وجاذبية». وفي نفس الوقت تأمل هذه الأوصاف الأخرى: «إنه لا يستمر على مزاج واحد»، و «كأنه عصفور يطير بسرعة من مكان لآخر، لا يرتاح، يتكلم بلا توقف». ستلاحظ أن روبرت بالغ التقلب، سريع الانفجار، حاد الطباع. صفات متناقضة يحملها رغماً عنه.
تأثر روبرت من نفسيته المضطربة، وقال ذات مرة: «لقد تعبت من الحياة كلها، كم أتمنى أن أعجّل لقبري الآن». وفي الشهر التالي لم يتحسّن، فيكتب: «قلبي ينمو معه اليأس والمرض، ويجعل هذا حياتي قانطة عديمة الأمل». كان هذا في عشريناته، ورغم ذلك شعر أنه شيخ كبير. لم يعرف يتعامل مع اكتئابه فداواه بأسرع طريقة يعرفها الغربيون: الخمر. وهذا لا يزيد الأمور إلا سوءاً، فظل في دوامة متذبذبة طيلة حياته، فترات مظلمة وفترات ابتهاج وإنتاج أدبي متحمس.
وبسبب هذه الدوامة، صنع روبرت أحد أشهر أعماله الأدبية والتي ما زالت تؤثّر على الثقافة الغربية، رواية الدكتور جيكل ومستر هايد، وهي قصة الطبيب المرموق الثري هنري جيكل والمجرم إدوارد هايد الذي يعيث فساداً في ليالي لندن، ونكتشف أنهما شخص واحد، فجيكل يدرك جانبه المظلم ولذلك صنع دواءً ليفصله عنه، لكنه صار يقترف الجرائم ليلاً ويتحول لنفسه بعدها، وفي النهاية يتحول جيكل إلى المجرم هايد بالتدريج.
لم يعرف القراء أن هذه الرواية مستوحاة من التموجات الظلامية التي اجتاحت نفس روبرت عشرات السنين! ويصف روبرت تعددية الطبيعة الإنسانية فيقول على لسان جيكل: «إن الإنسان ليس واحداً، بل اثنين، وأقول اثنين لأن هذا مَبلغي أنا، والإنسان عموماً مكون من عدة أشخاص يسكنون داخله، متنوعين.. مستقلين.. متناقضين».