د. إبراهيم بن محمد الشتوي
المسألة الثانية التي ترددت في حديث الكاتب، هي مسألة حصوله على المناصب التي شغلها، فقد تكرر في مواضع متعددة حديثه عنها، وبدا من هذا الهم الذي يحمله أنه قد سمع أكثر من مرة عن أحقيته بهذه المكانة. ومع أن الكاتب قد أشار في أكثر من مرة بأن سبب ذلك مرده الحظ، وأنه لا يفضل سواه في شيء، كما ذكر مرة أخرى أنه بدأ السلم من أوله، وأنه عمل في مواقع صغيرة لا تمثل شيئًِا.
ومع أن في هذا قدرًا من التواضع، حيث ينفي عن نفسه كل ميزة، كما ينفي أيضًا تدخل المحسوبية في ترشيحه، واختياره، أو في تمكينه أيضًا، فإننا سنعود مرة أخرى إلى موضوع النخبة التي ينتمي إليها، والتي لها طرائقها في التعبير عن ذاتها، والتوصل إلى ما تريد. وهذا يبدو في الحكاية التي أوردها عن مشاركته في «ندوة هارفارد الدولية» حين قبل مشاركًا بالرغم أن الشروط لا تنطبق عليه، إضافة إلى أن الرسالة التي كتبها على وجه الحقيقة لا تشجع على قبوله، ولكن الموقف جاء مختلفاً تمام الاختلاف لما يمكن أن يتوقعه المتوقعون، فالشروط غير منطبقة، والرسالة لا تشجع على قبوله، وكان من الممكن ألا تعرض على اللجنة من البدء، وترمى بسلة المهملات من قبل السكرتارية، ولكن «النخبة» لها حسها الخاص الذي رأت أن كاتب هذه الرسالة منها، وإن لم يكن قد اكتمل نموه، وأنه من الممكن في يوم قريب سيكون كواحد من الحاضرين أو أكبر منهم. هذا الحس يأتي عن طريق مكونات عدة: منها الثقافة، والسلوك، والخلفية أو ما يسمونه بالإنجليزية BACKGROUND. إنها قضايا تتجاوز ما يسمى بالحس الشعبي «الواسطة»، فالواسطة جزء منه، لكن يبقى بعد ذلك مكونات ذاتية يملكها الشخص بحيث تجعله هو نفسه جزءًا من المنظومة التي يريد أن ينتمي إليها، ومن هنا تصبح مخالفته للشروط والضوابط مخالفة شكلية، لا تلبث أن تزول حينما يندرج مع الجماعة، وينضوي إليها.
ولو أخذنا هذه الحكاية بوصفها عينة على ما صار إليه فيما بعد، لوجدنا أن اشتراكه في الندوة لم يكن سليمًا بناء على الشروط التي أعلنتها الندوة، ومع ذلك فقد تجاوز المسؤولون عنها الشروط، والمواصفات المطلوبة في الملتحق بها، وأصبح النظر يتجه لهذا الشخص الذي يريد أن يتعرض لهذه التجربة العلمية والسياسية، بوصفه مستحقًا على المستوى الشخصي أن يكون فيها.
هنا تعمل المؤسسة ولكن بصورة خفية، إذ تعلن عن قواعد، ومعايير، وتهملها حين تشاء، بناء على أن هذه القواعد والمعايير لأناس محددين من خارجها، وليسوا من داخلها، يرغب في تقريبهم، وتهيئتهم لمواصفاتها، وأحيانًا تمثل نوعًا من العوائق، والصعوبات على من هو خارجها تمنعه من الدخول إليها. أما الذين من داخل المؤسسة بأي اعتبار كان، فإن هذه الشروط والمعايير ليست مطلوبة منهم، ويمكن أن تكمل فيما بعد.
هذا التحرك من داخل المؤسسة تؤكده المهمة التي اختير لها من قبل الأستاذ عمران العمران، حين رشح للمشاركة في لجنة السلام التي شكلت بعد الاتفاقية في حرب اليمن، وهي مهمة ذات مسؤوليات كبيرة، ومستوى عالٍ، فهي مشكلة من الملك شخصيًا، ويشارك فيها شخصيات ذات شأن في المؤسسة الإدارية، وقد كان الكاتب يضطلع فيها بمسؤولية مهمة، بالرغم أنه لم يتول أعمالاً ذات بال في الجامعة، وحين عاد بعد اللجنة لم يتول أعمالاً أخرى، مما يعني أن عمله في الجامعة لم يكن السبب في موقعه في اللجنة، وهذا ما أشار إليه من قبل حين أكد على العروض التي انهالت قبل التحاقه في الجامعة عليه، ورفضها جميعًا.
هذا القول أورده للتأكيد على أن توليه هذه المناصب، وقيامه بهذه الأعمال يعد تحصيل حاصل، ومن هنا فإن السؤال عن السبب في حصوله على هذه الأعمال وتوليه هذه المهام، يعد سؤالاً لا معنى له بوصفه من داخل النخبة، والمؤسسة أصلاً، والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هو هل أحسن فيما تولى من أعمال أم لا؟ وهو سؤال لا يطرح على القصيبي وحده، وإنما يطرح على كل من هم على شاكلته، وفي موقعه. بيد أنه يتصل بالقصيبي بشكل كبير، لما أحدث من ضجة اجتماعية كبيرة، انقسم الناس في موقفهم منه، ومن تجربته إلى قسمين ما بين مغالٍ في محبته، ومغالٍ في ذمه وعداوته، وإن كنا لا نزال نعيش آثار تلك المرحلة. وهذا ما لن أخوض فيه في هذه المقالات.