في روايته الحاصلة على جائزة (البوكر)العالمية للرواية العربية عام 2012م يشرع لنا الروائي اللبناني ربيع جابر نافذة تاريخية, ليعبر بنا من خلالها إلى بقع مظلمة من تاريخ (الشرق العربي) طالما تجاوزها الزمن, أو غابت عن أذهان الناس, على الرغم من أنها لا تزال قابعة في ذاكرة التاريخ, وأرشيفيته القاتمة التي تحتاج لإضاءات تبدد عزلتها, وتعيدها إلى مسرح الحياة برؤية فنية خاصة, وأسلوب متقن, ولغة أنيقة حية, تنبض بروح العصر.
وهذا - بالفعل – ما استطاع أن يحققه جابر من خلال روايته هذه, التي جعلت من (التاريخ المكتوب أو الموثق) قاعدة أساسية ترتكز عليها جميع أحداثها وشخصياتها وأماكنها وأزمنتها. أي أن عمله هذا كان ضربا من (الرواية التاريخية) المعتمدة على السرد الحكائي, الهادف إلى تحويل (المادة التاريخية الخام) إلى مادة (سردية) قابلة للتشكل على نحو إبداعي معين, لا يغير من جوهرها أو حقيقتها شيئا, لكنه يحاول التفنن بإعادة صياغة شكلها من جديد, وتقديمها للقارئ بقلم الأديب أو المبدع, وليس بقلم الباحث أو الدارس أو المحقق فحسب, وبما يتوافق مع تقنيات السرد, ومهارة الكاتب في التعامل معه, ومعالجة موضوعه معالجة فنية, لا تتصادم مع الوقائع التاريخية الحقيقية, وإنما تسير إلى جانبها, مما يتيح المجال – في هذه الحالة – للكاتب نفسه ويمنحه نوعا من حرية التصرف في تشكيل رؤية خاصة به, لا تحيد عن السياق العام للتاريخ, وذلك عن طريق إعادة قراءة (الحادثة التاريخية) والنظر فيها من جديد, ومحاولة استجلاء ما غمض من جوانبها, وكأنه يحاورها, لعله يخرج منها بما يضيف للقراء معلومات تاريخية جديدة عن الحادثة نفسها.
وعلى الرغم من أن الكاتب قد وضع (عبارة تنويه) في الصفحة السابعة من الرواية, وهي الصفحة التالية مباشرة لصفحة (الإهداء) مفادها أن روايته التي بين أيدينا الآن (من نسج الخيال, بكل ما فيها من شخصيات وأحداث وأماكن وأزمنة) على حد تعبيره وكما جاء أيضا في صفحة (المراجع والمصادر) التي ختم بها الكاتب نفسه روايته, وهي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الرواية ,غير أن هذه المصادر توقع القارئ في شرك الحيرة والشكوك, ولا بد أن تخلق في ذهنه جدلا مثيرا بين الحقيقة والخيال, حول جميع ما تناوله ربيع جابر في عمله هذا فيما يخص قضية (دروز بلغراد) أولئك القوم الذين تم تهجيرهم قسرا من بلادهم (جبل لبنان) عام 1860م إلى بلاد (بلغراد والبوسنة والهرسك والصرب وكوسوفو) وغيرها إثر حادثة شجار واقتتال تم بين (الدروز) و(مسيحيي لبنان) مما اضطر السلطة (العثمانية) الحاكمة والمسيطرة في ذلك الزمان إلى اتخاذ قرار صارم يقضي بضرورة تهجير (الدروز) إلى هناك, وما تعرضوا إليه خلال هذه الهجرة الإجبارية المشؤومة التي استمرت اثني عشر عاما أو ما يزيد من التعذيب, وآلام الغربة والبعد عن الوطن والأهل, كما وصفها الكاتب لنا من خلال (قصة حنا يعقوب) الشخصية الرئيسة في الرواية.
لكن – على أي حال – يظل هذا (التنصل) الشخصي من التاريخ, الذي بادرنا به جابر منذ الصفحات الأولى لروايته أمرا (مقبولا فنيا) ولا بأس به, ما دام أنه يتعامل مع (نص أدبي سردي) له أدواته وتقنياته الخاصة به وله الحرية في التصرف ببعض جوانبه – ككاتب مبدع – وليس بصفته باحثا, أو محققا للتاريخ, تحقيقا علميا صحيحا, يلزمه بالدقة والموضوعية المتجردة.
وفي الختام أقول: إن هذه الرواية الرائعة تعد من (أدب السجون) وهي – حقا – مأساة لماض مؤلم من تاريخ هذه الطائفة, وقد تمكن الكاتب, وبنجاح من نقل معاناتها إلينا, وجعلنا نتعاطف مع قضيتها في ذلك الزمان – إنسانيا- وكأن من يقرأون هذا العمل يعيشون هذا الماضي المؤلم الشبيه بألم وحزن مؤجل على أثر جرح مندمل, لم نشعر به في وقته إلا بعد فوات الأوان!
- حمد حميد الرشيدي