تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
ويرى فودة أن الحفاظ على الإسلام كدين وليس كنظام سياسي يزيل العبء عن الإسلام، عبء تحمل مسؤولية انحرافات الحكام، وفي الوقت نفسه يضمن تعزيز هدفه الأساس: «العدالة». ويؤكد فودة: فلا يمكن تأسيس مبنى على قواعد المذهب الشافعي أو الحنبلي... ولكن على قواعد من الخرسانة. ولكن الإيمان والأخلاق ضروريان لضمان الجودة العالية للخرسانة. (91) وفي حين تسود حكومة علمانية في الأساس في مصر وتقوم على القانون الوضعي، فإنها تكيف نفسها مع احتياجات المجتمع المتغيرة، وتحتاج أسسها القانونية الثلاثة إلى الاستقرار ومزيد من التنمية:
(أ) حق الفرد في المواطنة والانتماء إلى الوطن الأم بغض النظر عن العرق أو الدين.
(ب) مجلس تشريعي يحقق المصالح المشتركة والفردية.
(ج) وحكومة مدنية تقوم شرعيتها على تطبيق الدستور، وحماية حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة.
ويتساءل فودة: «ما الخطأ في وجود دولة علمانية؟» إذا كان الجواب اغترابها عن الإسلام، فإن القرآن والتاريخ يثبتان عدم وجود نظام حكم محدد في الإسلام. وإذا كانت الحجة هي أن الأصل الغربي يدنسها، فيمكن تفنيد ذلك بأن الثقافة عالمية وليست حكرا على أي كيان؛ فالديمقراطية والعلمانية والتقدم وحقوق الإنسان هي قيم لحقت بها خسائر كبيرة في الغرب وأسهمت في تعريف وترسيخ التراث الوطني المصري في بداية القرن العشرين. (92)
خالد وفودة:
تميز تطبيق الشريعة تاريخياً بالاستبداد والظلم
وعبر دعوته إلى فصل الإسلام عن السياسة وإنكاره صلاحية الشريعة للعصر الحديث، مَثَّلَ فودة استمرارية لفكر عبد الرازق وخالد في فترة ما قبل الثورة؛ فقد أيد فودة وجهة نظرهما بأن الإسلام دين وليس دولة. وعلى هذا النحو، يتميز الإسلام بمرونة تمكنه من استيعاب متطلبات تغير الزمن. وتتمثل مهمة الإسلام في نشر العدالة والإنسانية في العالم وأفضل وسيلة لضمان ذلك هي عبر دولة مدنية تستمد سلطتها من الأمة بدلا من دولة دينية طبيعتها الاستبداد. ومثل خالد، وبعكس عبد الرازق، استند فودة على التفسير التاريخي وليس التفسير الدلالي للإسلام. واتفق ثلاثتهم على أن الخلافة غير ضرورية بل مُضِرَّةٌ للمسلمين في العصر الحديث؛ ولكن عبد الرازق، الذي وضع الأساس لهذا الرأي، أكد عدم وجود إشارة إلى وجوب إقامة الخلافة في القرآن والسنة، واقتنع بالرواية التاريخية الحصرية عن حكم أبي بكر وحروب الردة. في المقابل، استندت استنتاجات خالد وفودة على السجل التاريخي للخلافة الذي وجدوه يتناقض مع روح الإسلام. وبينما ركز عبد الرازق على «الخلافة»، ركز خالد وفودة على «الشريعة الإسلامية» والحملة التي تطالب بجعلها قانوناً للدولة لتحل محل القانون المدني. هذا التحول في التركيز من الخلافة إلى الشريعة يعكس التحول الذي حدث في الفكر الإسلامي الحديث نتيجة لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في أواخر العشرينيات. ومع اعترافها بوجود الدولة الحديثة، طالبت جماعة الإخوان بأن تصبح الشريعة أساساً لقانون الدولة، وهو مطلب أصبح عنصرا أساسا في الخطاب السياسي في الثلاثينيات والأربعينيات وبلغ ذروته في الثمانينيات. وردا على ذلك، فنّد خالد وفودة قدسية الشريعة ليس فقط في بعدها التاريخي، أي لكونها تميزت بالاستبداد والظلم الاجتماعي؛ ولكن أيضاً في البعد العملي، لكونها تفتقر إلى برنامج مناسب للتعامل مع مشاكل المجتمع الحديث. وقدّم فودة، وهو يشرح مخاطر التطبيق الفوري للشريعة، منظوراً أوسع من خالد في أواخر الأربعينيات. وشمل تحليل فودة قطاعاً عريضاً من الدول في شبه الجزيرة العربية وكذلك إيران وباكستان والسودان، وأيضاً قطاعاً عريضاً من الحركات، بما في ذلك حركات راديكالية بالإضافة إلى جماعة الإخوان. وكانت معالجة فودة لعصر الخلفاء الراشدين أكثر كثافة وشمولاً من معالجة خالد؛ فقد طعن في خلافة أبي بكر وعثمان وعلي، وأكد أن خلافة عمر فقط هي الجديرة بالاتباع في التاريخ الإسلمي. (93)
وعلى الرغم من استمرارية الأفكار العامة للكُتَاب الثلاثة، فقد اختلف فودة عن عبد الرازق وخالد في نقطتين رئيستين: منزلة الرسول، ومنزلة الدين في المجتمع. أولا، زعم فودة أن الإسلام صادق، منذ بدء الرسالة، على الفصل بين الدين والسياسة؛ ولكنه لم يستنتج من هذا أن النبي كان فقط زعيماً روحياً فقط وليس زعيماً سياسياً، كما فعل أسلافه. فمن وجهة نظر فودة، كانت أفعال النبي كحاكم تعتبر خارجة عن مجال الحكم التاريخي نظرا لطابعها الإلهي. وهذا يتناقض مع النسبية التاريخية لعصر محمد التي تعفي المسلمين اليوم من تقليد عادات تلك الفترة كاللباس والممارسة الطبية. ثانيا، بالرغم من أن فودة كان حريصاً على إحداث تغييرات راديكالية في المجتمع بما يتماشى مع القيم الحديثة، فإنه لم يُهمش الدين في الحياة العامة كما فعل عبد الرازق وخالد. وبدلا من ذلك، نظر فودة إلى الدين بوصفه جزءا لا يتجزأ من الهُوية المصرية ودليلاً أخلاقياً للمجتمع. (94)، بل واعترف بحق العلماء في توجيه المواطنين في القضايا الدينية، بشرط عدم استعمال الدين لهدف سياسي لكي لا يشوّه قدسية الإسلام. (95) فبالنسبة إلى فودة، ينبغي فصل الدين عن السياسة ولكن ليس عن الدولة، كما طالب سلفيه عبد الرازق وخالد، وهذا يعني الاعتراف بالإسلام كجزء لا يستغنى عنه من التجربة المصرية التي فرضت التزاما على الدولة للحفاظ على قيم الإسلام وعطلاته ومؤسساته. وفي الممارسة العملية، دعا فودة إلى تسوية ديمقراطية على أساس حل وسط مؤقت: بين نهج قضائي يضمن دور الدين في الدولة عبر تعريف تشريعي ودستوري؛ وبين نهج انفصالي يجعل الدين مسألة شخصية وخاصة تماماً. (96) وتبين القراءة السياقية لكتابات فودة أن نهجه المعتدل نسبيا في التعامل مع النبي ومع دور الدين في المجتمع لم يكن فقط نتيجة لقناعة عقلانية داخلية؛ ولكن أيضاً كتعبير ذكي للسياسة الواقعية (Realpolitik) المتمثلة في الاعتراف بواقع الأسلمة المتزايدة في المجالات الاجتماعية والسياسية.
يتبع
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى