حين أنشأ عرب الجزيرة سوق عكاظ كان هدفهم تحقيق شيئين: التداول التجاري لبضائعم والبضائع التي تردهم عن طريق البحور ومن بلاد اليمن والشام والعراق وأنحاء الجزيرة العربية، والجانب الآخر اجتماعي بتناقل الإعلام والأخبار، وذلك قبيل تحرك قوافلهم إلى مكة المكرمة بغرض أداء الحج استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام ، وكانت فرصة لمطارحة الشعر العربي بصفته ديوان العرب، بالفعل ازدهر السوق وراج تجاريا وتألق في الحقل الشعري بمشاركة عدد من أبرز شعراء الجزيرة، ورغم أن عكاظ قام أساسا على وظيفتين إلا أن وظيفة ثالثة تولدت وهي الإعلام حيث إن القصائد الحسان التي يلقيها فحول الشعراء يتناقلها الركبان لتنتشر في أنحاء الجزيرة العربية لذا زاد التنافس بين الشعراء، خصوصا بوجود عدد من نقاد الشعر أمثال النابغة الذبياني الذي نصب خيمته على أديم عكاظ ليستمع بأذنه الناقدة والمرهفة لكل القصائد مميزا بين جيدها ورديئها حتى زاد التنافس بين فحول الشعراء لتعلق قصائدهم في الذاكرة العربية وأطلق عليها المعلقات السبع والبعض يقول العشر وكانت حسنة السبك ذات كلمات فصيحة ومعان عميقة، ومن الشعراء الذين ذاعت قصائدهم امرؤ القيس وعنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والنابعة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد وغيرهم. والشعر يأخذ في مضامينه ترسيخ القيم الأخلاقية من وفاء بالعهد والوعد والتزام بالشيم وكل مكارم الأخلاق مثل الكرم والشجاعة والنبل وإجارة الملهوف فكانت القصائد مليئة بالصور الفنية والأدبية غاية في الجمال والإبداع الأدبي فهي مزيج أدبي وأخلاقي وثقافي نسجها الشعراء بخيوط الإبداع اغترفوا معانيها وكلماتها من معين ثقافتهم التي كانت تولي اللغة العربية جل الاهتمام .أصبح السوق علامة مضيئة تميز به العرب عن غيرهم مما ترسخ في ذاكرة الأجيال جيلا بعد جيل فالشعر أبقى هذا السوق في الذاكرة ولم يتوقف جمال الشعر وهيبته عن الفترة الماضية بل امتد جمال وبهاء الشعر إلى وقتنا الحاضر فهناك محمد الثبيتي وغازي القصيبي وطاهر زمخشري وعلي الدميني وحسن القرشي وجاسم الصحيح وحسن الزهراني وغيرهم ممن حملوا لواء الشعر وهاهم الدارسون والباحثون في كل الجامعات العربية انكبوا لاستجلاء الإبداع الشعري سواء للشعراء السابقين أم المعاصرين.
نتوقف لنستشف بأن السوق لم يتوقف دوره عند هذين الجانبين التجاري والأدبي بل تجاوز ذلك إلى قيامه بالدور الإعلامي وبدرجة امتياز حيث ملأ الآفاق وأصبح نارا على علم ولو لم يكن كذلك لما وصلتنا قصائدهم ولما تكبد الشعراء أنفسهم سيرا على الأقدام أو ركوبا الأحصنة وصولا إلى سوق عكاظ قاطعين الصحاري والفيافي الواسعة سالكين الجبال العسيرة كي يلقوا قصائدهم على مسمع من رواد السوق وهذه فطنة من الشعراء بأن قصائدهم سوف يتناقلها الناس وتصل إلى أفاق بعيدة مما يؤكد أن السوق يحمل في مضامينه رسالة إعلامية واضحة وقوية، والإعلام كما يعرفه المختصون بأنه وسيلة ووسيط لنقل الأخبار والمعارف وغيرها، وها هو السوق يقوم بذات الدور. ولم يتوقف عند مشاركة الشعراء في إلقاء القصيد بل أيضا الأخبار والإعلام يتناقلها مرتادو السوق ليصبح كل فرد وسيلة إعلام لنقلها إلى المواقع التي جاءوا منها وهكذا تشيع الأخبار وتنتشر،السوق أدى دوره التجاري والثقافي والإعلامي ليتم فتح صفحة من التاريخ العريق والمضيء بإعادة مجد السوق وألقه ليأخذ شكلا آخر يتناسب وروح العصر، وفي دورته الحادية عشرة تنامى الفعل الثقافي باستمرار مسابقة سوق عكاظ الكبرى التي يتنافس من أجل الحصول عليها الكثير من الشعراء على مستوى الوطن العربي لنيل بردة عكاظ، وكذلك الشعراء الشباب ويقف الشاعر في ذات المكان الذي وقف عليه جده الشاعر العربي ليلقى القصيد لينال الجائزة التي يستحقها وسط حضور أطياف المجتمع.
أما جادة عكاظ فأصبحت مسرحا متميزا وفي الهواء الطلق يتناغم والظروف الحياتية والتنامي التقني ليقف الشعراء والملوك والأمراء السابقين في مشاهد تمثيلية مع الاستعانة بالصوت والضوء لنقل وقائع قديمة وأحداث سجلها التاريخ في صفحاته ليأخذ المشاهدون العبرة مع الاستمتاع بجمال وفخامة اللغة، والزائر للسوق والمتجول في باحاته وكأنه يشق بوابة التاريخ متفاعلا مع تلك الصور والمشاهد والأحداث والأصوات وكأن ثمة صوت ينسدل من حنجرة أمرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيبي ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أو مشاهدة سيف عنترة بن شداد العبسي وهو يلتمع مع إشعاع الشمس كثغر عبلى:
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
أو إنصات لبيت شعر لزهير بن أبي سلمى مليء بالحكمة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبالك يسأم
كل ذلك يزيد الزائر شوقا وجذبا وتفاعلا
لم تتوقف أنشطة السوق عند هذه الجوانب بل اتسعت وزادت فعالياته فهناك الخيمة الثقافية التي تنضح بالفكر والأدب والنقد والبهاء بمشاركة عدد من الأدباء والشعراء والنقاد والإعلاميين من داخل المملكة وخارجها وهناك الحزام الأمني الذي تجلى في معارض القوات المسلحة ووزارة الحرس الوطني وعلى جنبات السوق وبشكل منظم محلات تعرض أنواعا من الصناعات اليدوية والحرفية التي تحيكها أيدي سعودية ربطا بالماضي وإعطاء صورة عمّا كان يفعله الأجداد فيما تقدم الأسر المنتجة الكثير من الأطعمة، وسط هذا الجمال تجوب الخيول والقوافل جنبات السوق في استعراض مدهش، وكأن ثمة فرسان انبثقوا من جوف الصخور المحيطة بالسوق كل موجودات السوق تفضي إلى عمق التاريخ وتتمازج مع الحاضر المزدهر ليعطينا المؤشر المبهج نحو المستقبل المضيء بإذن الله.
وللفن التشكيلي مساحة واسعة بمشاركة كل الهواة والمحترفين يقدمون نماذج من أعمالهم سواء بطريقة الأبعاد الثلاثة أم الرسم على الأرض أو اللوحات الجدارية ولم يغفل السوق الاهتمام بالناشئة حيث خصص مكانا تحت مسمى فتيان عكاظ لتعليم الأطفال اللغة العربية وتنمية المواهب في الشعر والنثر والقصة والرسم، ليكون أيضا معرض الخط العربي واحدا من الشواهد الجميلة في باحة السوق.
شكراً للمشرفين والمنظمين من الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني وكذلك لجامعة الطائف وكافة الرائعين الذين استشعروا قيمة السوق وحرصوا على تقديم المعلومة والخدمة لكل زوار السوق...
بالفعل عكاظ إبداع يتجدد
- جمعان الكرت