د. عبدالحق عزوزي
استقال بيير دو فيلييه قائد القوات المسلحة الفرنسية من منصبه مؤخرا بعد خلاف حاد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول خفض ميزانية الدفاع في اختبار مبكر لقدرة الرئيس الجديد على تخطي الخلافات. وقال دو فيلييه في بيان إنه حاول الحفاظ على قوة دفاع فرنسية قادرة على القيام بمهامها التي تتزايد صعوبتها في إطار القيود المالية المفروضة عليها لكنه لم يعد قادرا على الاستمرار في ذلك. وأضاف «وفي ضوء الظروف الحالية أرى أنه لم يعد بإمكاني ضمان قوة الدفاع القوية التي أعتقد أنها ضرورية من أجل حماية فرنسا والشعب الفرنسي، اليوم وغدا، وتحقيق أهداف بلدنا».وسارع ماكرون إلى استبدال دو فيلييه وعين الجنرال فرانسوا لوكوانتر خلفا له.. كثرت التحاليل والتفسيرات بين مؤيد ومعارض لسياسة ماكرون العسكرية والدفاعية. ولكن نحن هنا في مجال الإستراتيجية، وفهم الإستراتيجية الحقيقية هي التي أوصلت السيد ماكرون الرئيس الشاب إلى قصر الإليزيه، وهو رجال الحسابات والاقتصاد والمالية الذي يفهم أولويات الأولويات... المشكلة اليوم وهو أنه عندما يأتي مسؤولون عموميون كبار بسياسات مغايرة لما عهده وألفه الناس تقوم الدنيا ولا تقعد، وهنا المصيبة الكبيرة. وإذا كان رجل الدولة هذا لا يتمتع بالجرأة الكبيرة أو يخاف من عواقب الناس الذين لا يفقهون في عواقب الأمور الإستراتيجية، يتنازل عن قراراته لإبقاء الرضا والابتسامة في محيا الجميع، ولكن هاته الابتسامة دائما ما تكون سريعة الزوال، وتكون الذاكرة ضيقة ليلقى باللوم على آخذ القرار.
أنصح كل من يريد فهم ما فوق حشائش وتحت حشائش مفاهيم الإستراتيجية وبالضبط تلك التي يتبناها صناع القرار خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، قراءة كتاب دونالد نوشترلين الذي سماه «أمريكا مرهقة بالالتزامات: المصالح الوطنية للولايات المتحدة في الثمانينات»؛ في هذا الكتاب يصف نوشترلين المصالح الوطنية بأنها: «الاحتياجات والرغبات المتصورة لدولة مستقلة فيما يتعلق بالدول الأخرى المستقلة التي تشكل بيئتها الخارجية»؛ وطبيعة البيئة الاستراتيجية كما يصفها نفس الكتاب فيما يخص تطوير السياسة والإستراتيجية، توحي بتفكير أكثر شمولية: فهي «الحاجات والرغبات لدولة ذات سيادة فيما يتعلق بدول أخرى مستقلة، وبأطراف فاعلة غير حكومية، وبالمصادفات والظروف في بيئة استراتيجية ناشئة توصف بأنها الوضع النهائي المنشود» وهذا التعريف الشامل يفصح عن دينامية البيئة الاستراتيجية التي هي عرضة لعدد من الفاعلين والمصادفات والتفاعلات، كما تتضمن مكونات خارجية وداخلية.
نوشتلرين أشار إلى المصالح الجوهرية الأمريكية وعدد أربعة منها: الدفاع عن أرض الوطن، الرخاء الاقتصادي، النظام العالمي المفضل ونشر القيم. الفائدة من تحديد هاته المصالح الأربعة والإعلان عنها بدقة ووضوح هي أن تساعد وتفيد في صياغة السياسة والإستراتيجية. فالدقة هي سمة في غاية الأهمية عند صياغة السياسة والاستراتيجية الجيدتين؛ والدقة تزيل الضباب وتوضح الرؤية وتوفرها وتمكن من إزالة جدار الغبش الفكري غير المقبولة في العلاقات الدولية والعلوم السياسية المقارنة.
مع وصول الرئيس ترامب ظن البعض أن هاته المصالح سيصيبها الوهن والضعف، وأن سياساته المتقلبة ستحدث شرخا فيها، ولكن يجهل العديد ممن يتبنى هذه الرؤى كيف تقوم السياسات الأمريكية وتداخلها وقوة مؤسساتها. فالولايات المتحدة الأمريكية دولة مؤسسات ودولة آلاف المخططين والإستراتيجين وهي تتكيف مع تغير الزمان الداخلي والخارجي لا أقل ولا أكثر في سبيل تحقيق مصالحها الإستراتيجية بكل الطرق المتاحة... فليس هناك بعد واحد في الاستراتيجية، بل هناك العديد من الأبعاد، وأية سياسة مؤثرة على البيئة الإستراتيجية الداخلية والخارجية يجب أن تأخذ ذلك في الحسبان. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنبها، وتؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الإستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة مصالح الدولة بنجاح... لهذا لم يفهم العديد من المحللين بل وحتى الإستراتيجين العالميين نوعية العلاقة الجديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا التي بدأت تقوض كل ما بني طيلة العقدين الماضيين، وسرعة تغيير القرارات المتخذة في السياسة الخارجية الأمريكية بين عشية وضحاها لأن الجالس على عرش البيت الأبيض هو رجل أعمال ذكي يعرف كيف يمكنه أن يبقى دائما رابحا مع أعداء قدامي مثل روسيا وكيف يمكنه أن يقوي علاقاته مع حلفائه، وكيف يمكنه أن يتبنى رأيا وفي نفس اليوم أو في اليوم الموالي يطلعنا أحد مستشاريه برأي آخر...