ثار جدل فقهي طويل جدا وتاريخي حول مدى ضرورة مجانية اللجوء إلى القضاء ؛ لن نفصل في ذلك الجدل كثيرا وانما سنشير اشارة عابرة إلى حجج الطرفين. فمن يقولون بمجانية القضاء يستندون إلى عدة استنادات بعضها قانونية وبعضها اجتماعية عدلية، اما القانونية فهو أن لجوء الفرد إلى قاضيه الطبيعي هو حق كفلته الدساتير والأنظمة الأساسية وفرض تكاليف على الفرد ليلجأ إلى قاضيه الطبيعي يعني عرقلة استخدام الفرد لحقه هذا، وبالتالي فإن هذه العرقلة تشوبها شائبة عدم الدستورية، ومن جانب اجتماعي عدلي فإن فرض رسوم على التداعي القضائي يؤدي إلى ترك الفقراء حقوقهم لمن يسلبها نتيجة عدم قدرتهم المالية للجوء إلى القضاء، وهذا يعتبر من وجهة أخرى انتهاكاً للعدالة التي يجب أن تتغياها انظمة الحكم وادارة الدولة، كما ان القضاء ولكي يضمن حياديته ونزاهته يجب أن يؤدي عمله دون ان يطلب مقابلاً على ذلك فالعدالة ليس لها ثمن، الا ان الفريق الآخر رد على ذلك بأن فرض رسوم على التداعي القضائي وكافة الطلبات المقدمة إلى جهة القضاء يحول دون تفشي ظاهرة الدعاوى الكيدية والصورية التي لا سند لها مما يرهق كاهل القضاء بهذه الدعاوى الزائفة بدلا عن توجيه جهده إلى النظر في الدعاوى الحقيقية والجادة. بالاضافة إلى ذلك فإن وضع رسوم على الدعاوى لا يتم بدون تدرج بحسب قيمة الدعوى والاجراء المطلوب فلا تتساوى قيمة الدعاوى مع بعضها فالدعاوى المليونية والمليارية تكون رسومها اعلى من رسوم الدعاوى التي لا تتجاوز بضعة آلاف من الريالات، وفي عدم فرض رسوم على الدعاوى المليارية تضييع لحق القضاء في أخذ نسبة من قيمة هذه الدعاوى لتصرف اداريا لفائدة تطوير العمل القضائي، كما ان فكرة فرض رسوم لا تخل بحق الفرد في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لأنها لم تصادر على أصل هذا الحق بل نظمته، أما بالنسبة للفقراء وغيرهم فكما سبق القول لن يخضعوا لفرض رسوم على الدعاوى التي يرفعونها وفق تقدير القضاء لحقيقة فقر المتداعي، بالاضافة إلى ان الخصم عندما يحكم لصالحه انما يسترد ما دفعه من رسوم في الدعوى وايضا اتعاب المحاماة وهذا يمنع المدعى عليه من التمادي في نفي المسؤولية عنه لأن كل هذه المصاريف والرسوم سوف يردها هو حينما يحكم ضده. كذلك فإن فرض رسوم قضائية سيجبر الأفراد على تغليب الصلح بينهم وحل نزاعاتهم وديا وسلميا.
ويبدو ان المنظم السعودي قد مال أخيرا إلى اعتبارات الرأي الثاني فها نحن نشهد مشروعا لنظام التكاليف القضائية.
وقد وضح مشروع النظام الغرض منه في المادة الثانية حين أشار إلى ان الغرض من القانون كبح الدعاوى الصورية والكيدية وتوجيه المتقاضين إلى طريق الصلح والحث على توثيق واثبات التعاملات والعقود.
وبالنسبة للمخاوف المثارة حول اشكالية عدم قدرة بعض الاشخاص على دفع رسوم التقاضي والاجراءات القضائية.. نجد ان مشروع القانون قد راعى هذا الجانب من عدة محاور... فعبر نطاق تطبيق القانون عينيا، فهذا النظام لا يطبق على الدعاوى الجزائية وهذا سببه ان المختص أولا برفع الدعاوى الجزائية هو النيابة العامة. والدعاوى والطلبات المتعلقة بالتنفيذ، واهم شيء والنقطة الجوهرية أن هذا النظام لا يسري على دعاوى الأحوال الشخصية مراعاة لأن هذه الدعاوى غالبا تتعلق بأطراف ضعفاء كالمرأة والطفل.
ومن محور آخر فإن المشروع لم يفرض دفع الرسوم مقدماً للسير في الدعوى فالمادة الثانية عشرة منعت وقف السير في الدعاوى لمجرد عدم دفع الرسوم كما ان المواد اللاحقة لها أخذت في الاعتبار ان المدعي قد يحكم لصالحه ومن ثم يكون المدعى عليه هو الملزم قانونا بدفع التكاليف ومن ثم فلا يجب حرمان شخص من اللجوء إلى القضاء مادام كان صاحب حق حقيقة لا ادعاء ولا كيدا. واما المادة السابعة عشرة فقد نصت على من يتم اعفاؤهم من دفع الرسوم ومنهم المسجونون والموقوفون والدعاوى التي يرفعها العمال نسبة لأن العامل غالبا ما يكون فقيرا.
اخيرا فإن فرض هذه الرسوم لا يذهب إلى السلطة التنفيذية او التشريعية (التنظيمية) في الدولة وانما يتم ايداع مبالغها في حساب خاص يخصص للصرف على مشروعات تطوير القضاء وفقا للمادة التاسعة عشرة.
وهذا وفق تقديري الشخصي يعني ان فرض الرسوم القضائية لم يكن الدافع اليه هو أزمة اقتصادية بل هو بالفعل منعا لارهاق القضاء بقضايا كيدية وصورية تتكدس لتخفي وراءها دعاوى وقضايا حقيقية يجب ان يوجه اليها القضاء جل وقته.
** **
- أستاذ القانون المشارك بجامعة الطائف