د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أبو الطيب المتنبي شاعر عظيم أشاد به القاصي والداني، وشعراء عصره (أبو العلاء المعري) وشعراء عصرنا (غازي القصيبي)، وطوى شعره أكثر من ألف سنة من عمر الزمن دون أن يفقد شيئاً من طراوته أو يفتقد شيئاً من انشغال الناس بشوارده.
والأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع عالم محقق في الأدب العربي القديم، أوصله التبحّر في العلم والدقة في البحث إلى الفوز بجائزة الملك فيصل العالمية عام 1430هـ في فرع اللغة العربية والأدب. لكنّ طالب العلم لا يشبع، فقد أبى بعد ذلك إلّا أن (يبحر) في عمق الصحراء مسافة تقارب الألفي كيلو متر، وفى عمق التاريخ زمناً يقارب الألف سنة، مقتفياً أثر المتنبي في طريق هروبه من ملاحقات كافور عام 358هـ، مستضيئاً في ذلك بما يمكن اعتباره (مذكرات) المتنبي التي سجلها في قصيدة الهروب وبما ورد في ديوانه من خبر الهروب، ومستعيناً بدعم أهل الخبرة اللوجستية والفنية الذين رافقوه؛ ثم خرج من هذا البحث بسفْر ثمين تضمّن نتائج سيره (على خطى المتنبي).
ما أنا في كتابة هذا المقال إلّا قارئ ليس له نصيب من الشعر ولا من النقد ولا غواية بهما. لكن جذبتني عظمة ذلك الشاعر وانشغال هذا العالم المحقق به، فأشعلتا في نفسي الفضول لأن أعرف كيف يمكن لعالم يحقق في كتب التراث الأدبي أن يقتفي آثار الشاعر الهارب التي أكل عليها الدهر وشرب منذ أكثر من ألف عام، وهل يملك أدوات تدلّه على تلك الآثار ؟ ومن أجل ماذا ؟ هل سيعثر على كنز أثريّ قد يكون المتنبي دفنه في طريق هروبه، أم سيكتشف معلماً جغرافياً لم يسبقه إليه أحد ؟ وهل يستطيع أصلاً - لو كان يملك الأدوات اللازمة - أن يحقّق أكثر مما حقّقه كثيرون غيره سبقوه بالكتابة عن هروب المتنبي؟ والحقيقة أن شعلة الفضول تحوّلت بعد أن قرأت الكتاب إلى إعجاب، لأنه أجاب على ما تساءلت عنه.
أوّل ما يدعو للإعجاب أن الكتاب هو نتاج بحث علمي ميداني استغرق الإعداد له وإجراؤه عدة سنوات، وكلّف الكثير من الوقت والجهد وتحمّل المخاطر. وقد يكون هذا مطلوباً من عالم محقّق - فالمحقّق هو ذلك الباحث عن الحقيقة. ولكن لا يجازف بمخاطرة كهذه إلّا من أوتي العزيمة على تحمّل مشاقّ البحث عن الحقيقة مهما كلّف ذلك من الجهد المضني - بدنياً وذهنياً- حتى يحصل عليها. وهي بالفعل الكنز الذي كان يبحث عنه الدكتور المانع فوجده؛ إنه كنز الحقيقة حول الدروب التي سلكها المتنبي في هروبه. فهل كانت تلك الدروب تستأهل كل ذلك الجهد والاستعداد وحشد المعاونين والرفقاء ؟ الجواب ليس خافياً مثل كنز مدفون، بل نجده في شخصية المتنبي، الشاعر الذي ملأ الدنيا وأشغل الناس.
وكل عظيم من عظماء الأدب - كغيره من عظماء التاريخ - لا ينحصر الاهتمام به في مآثره، بل يتعداه - كما هو معروف - إلى أمور جانبية مثل مقتنياته ومقر سكناه والأماكن التي زارها - وربما خلّدها في أدبه أو شعره. ولو كان للمتنبي دار معروفة في الكوفة - مثلاً - لرأينا هذه الدار مقصداً للسياح ومعلماً أثرياً تحرص عليه العراق. ومثل هذه الجوانب مكمّلة لدراسة الشخصية العظيمة في كل الثقافات؛ فما بالك إذا كان طريق الهروب نفسه جزءاً مما ورّثه المتنبي لنا من شعره متمثّلاً في قصيدة الهروب.
أما الأمر الثاني الذي يدعو للإعجاب فهو النهج العلمي التجريبي الذي سلكه الدكتور المانع للوصول إلى الحقيقة، ممّا أتاح له أن يحقّق فعلاً أكثر ممّا حقّقه الذين سبقوه بالكتابة عن هروب المتنبي. فهو لم يُقنع نفسه بالاكتفاء بمسح الأدبيات المنشورة أو الوثائق المحفوظة في المكتبات، فيأخذ من الأقوال أرجحها ومن الوثائق أكثرها مصداقية - وإن كان هذا بالطبع نهجاً علمياً معتبراً، ويحسب فيه للمجتهد الأمين فضله في التحقيق والتدقيق. ولكن حتى المحقق المجتهد قد لا يلاحظ عند تعدّد المصادر الموثوقة الفروق الدقيقة بينها في تحديد مواقع المعالم الجغرافية واتجاهاتها، وقد لا يبقى أمامه عند تشابه المسمّيات إلّا أن يختار الأشهر منها. وأوضح مثال لذلك نجده في أحد أبيات قصيدة الهروب:
(وأمست تخيّرنا بالنقا....
ب وادي المياه ووادي القرى)
فقد رأى المحقّقون السابقون أن المقصود هنا هو وادي القرى المشهور الواقع شمال المدينة المنورة بين تيماء وخيبر - وإن كان بعضهم تساءل متشكّكاً: لماذا يقصد هذا الوادي إذا كان أصلاً يريد العراق ؟. أمّا الدكتور المانع فرفض منطقه العلمي هذا الرأي، لأنه لا يستقيم مع قصد المتنبي في التوجه للعراق، كما يدلّ على ذلك البيت الذي تلاه:
(وقلنا لها أين أرض العراق.....
فقالت ونحن بتربان: ها)
كما أن المتنبي عندما رأى أن الطريق الأقرب إلى العراق - وهو وادي المياه - غير آمن بسبب الحاميات التابعة لكافور أمر بالتوجه إلى دومة الجندل التي يعرفها المتنبي جيدا، وهي بالفعل تشكّل مع قرى أخرى - كما شاهد المانع - قاعدة الوادي المسمّى الآن وادي السرحان، أي أن هذا وادي القُرى الذي عناه المتنبي. بمثل هذا المنطق والاستدلال العلمي يحدّد المانع بدقه المواضع الصحيحة للأماكن التي مرّ بها أو توقّف عندها المتنبي ومسمّياتها التي جرى على بعضها التصحيف، ويفنّد آراء محققين سابقين أو روايات في كتب التراث إذا وجد أنها غير منطقية لتعارضها مع ما شاهده فعلاً.
وقد يتوصل إلى تحديد موضع ورد اسمه في القصيدة، لكنه لا وجود له على الخرائط ولا يعرفه أحد بذلك الاسم - مثل (البويره) المجاورة لوادي الغضي كما في القصيدة. لكن الدكتور عبدالعزيز شاهد في مستوطنة (كلوه) - كما تسمّى الآن - الواقعة قريباً من وادي الغضي موقعاً به آبار صغيرة الفتحات، ورأى أن هذا هو الموقع الذي عناه المتنبي وسمّاه البويره (تصغير بئر) تصغيراً وتحقيراً لها بسبب صغر فتحاتها ومرارة مائها.
ومن أطرف ما تحقّق منه المانع في سيره على خطى المتنبي انخداع بعض المحققين بالمعنى الحرفي لعبارات وردت في القصيدة، كما في البيت:
(ولاح لها صُور والصباح......
ولاح الشغور لها والضحى)
فتوهّم أحدهم بأن المتنبي كان في بلدة صور فجراً ثم سار بركائبه حتى وصل الشغور وقت الضحى، فكأن المسافة بين الموضعين كانت من القرب بحيث وصلتها القافلة في بضع ساعات، في حين أن سيارة فريق البحث بسرعتها التي تبلغ أضعاف سرعة الإبل احتاجت إلى نصف نهار لكي تقطع المسافة بين صور والشغور! والمتنبي كان يقصد إذن أنه وصل الشغور وقت الضحى - ربما بعد يومين من وقت مغادرته بلدة صور، (وكأن لسان حاله يقول: من يبغى فهم القوافي.. فلا بدّ له من قطع الفيافي!)
هذه الأمثلة الثلاثة وغيرها شواهد على أنه بدون هذا البحث العلمي الميداني ما كان بالإمكان تطبيق ما ورد من المعلومات التاريخية والوثائق الأدبية على واقع المعطيات الجغرافية، وتوثيق ذلك برفع الإحداثيات ورسم الخرائط. لقد كان هذا البحث مشروعا ريادياً شديد الشبه في منهجيته العلمية بالبحث المعملي التجريبي الذي يُراد من خلاله كشف الناتج من تفاعل مواد كيميائية في المعمل، إلّا أن المعمل هنا هو بيداء المتنبي، والمواد المتفاعلة هي التاريخ والشعر والجغرافيا.