د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
الحمد لله على قضائه وقدره، ونشكره ونثني عليه في كل حال. لقد فُجعت أيما فجيعة بوفاة عمي الحبيب والعزيز الشيخ عبدالرحمن بن محمد الفيصل، هذا الرجل النبيل الذي تُوفِّي مبتسماً -رحمه الله-. وقد كان خبر مرضه مفجعًا كخبر وفاته -غفر الله له -. فقد زرته مرات عديدة في المستشفى، وفي كل مرة أزوره فيها أراه مبتسماً راضياً بقضاء الله وقدره. وقد كان رغم مرضه وتعبه الشديد الذي كان يحول دون قدرته على الحديث يهتم بزواره أكثر من اهتمامه بنفسه -رحمه الله-؛ فمنذ أن وعيت وأدركت هذه الحياة وصورته ارتسمت في ذهني وهو يبتسم؛ فديدنه التفاؤل في كل حال؛ فلم أذكر أنني رأيته متجهماً أو غاضباً مهما كانت الظروف والأحوال؛ فقد كان كريماً؛ يفرح بالضيف.. ونبيلاً؛ يشفع بما يستطيع، يفزع في تأدية واجباته الدينية والاجتماعية، ولا يتوانى فيها مهما كانت الظروف.
كم آلمني فراقك يا عمي الحبيب، وكم أوجعني رحيلك عن هذه الدنيا الفانية، ولكنَّ عزاءنا في سفرك إلى دار المستقر هو أعمالك الصالحة التي كانت تشهد لك في ميادين الخير والأجر.
لقد خدم عمي الشيخُ عبدالرحمن هذا الوطنَ الغالي بكل صدق وإخلاص؛ فلم يتوانَ عن القيام بواجباته الوطنية بكل عزيمة وقوة؛ فقد كان عمله في مكتب معالي نائب وزير الداخلية الأسبق صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز -حفظه الله- مذكوراً ومشهوداً؛ فكان لا يرجع إلى منزله إلا بعد منتصف الليل، إلى جانب انتدابه نصف السنوي إلى مدينة جدة عندما ينتقل الوزير ونائبه إلى هناك. وطيلة مدة خدمته في وزارة الداخلية، هذا الصرح الشامخ والحصن الحصين، لم يغب عن عمله لأي سبب اجتماعي أو صحي، وكان دائمًا ما يقول لي إذا سألته عن الإجازة والراحة آنذاك «لا راحة في خدمة الوطن». صدقت يا عمي، وقد أديت الأمانة بكل صدق وإخلاص؛ فحق لنا أن نفخر بك، ونعتز بسيرتك العطرة.
يا له من وجع عندما هاتفني عبدالله ابن عمي في ذلك الفجر الكئيب؛ ليبلغني بوفاة عمي وانتقاله إلى الرفيق الأعلى. لقد كانت جنازة مهيبة، توافد إليها مئات البشر من كل مكان؛ ليشهدوا فراقك المحزن، وغيابك المؤلم.. وكانت كل هذه الحشود تشهد لك بالصدق والخير، والناس هم شهود الله في أرضه، وإذا أحب الله عبداً وضع له القبول في قلوب البشر. وبقدر فجيعتنا برحيلك سرنا محبة الناس لك، وشهادتهم لك بالخير والصلاح الذي نعرفه عنك، فيا لها من أيام جميلة لا تنسى، عشناها معك أيها الحبيب.. فقد كان وجودك النقي يبعث في نفوسنا الفأل، وكنا كلما ضاقت صدورنا من مكدرات هذه الدنيا الفانية استحضرنا ابتسامتك الدافئة، وكلماتك المعبرة، التي تثلج الصدر، وتطرد أسباب الكدر مهما كانت. وبقدر إيماننا بفناء هذه الدنيا، وتمام مواقيت رحيل الناس عنها، فإننا نطلب من الله -عز وجل- أن يغفر لك ويرحمك، ويعلي منزلتك.. فهذه الدنيا إلى زوال كما صورها شاعر المعلقات العشر زهير بن أبي سلمى:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
ليتك تعلم يا زهير كم آلمنا فراق عمي، وكم أحزننا رحيله، فحتى الموت لم يستطع أن ينزع من ثغره تلك الابتسامة الدافئة؛ فتوفي -رحمه الله- وهو مبتسم، ليفارق الدنيا بكل أفراحها وأتراحها. لقد رحل عمي عبدالرحمن وله ستة أبناء، هم: محمد وفيصل وناصر وعبدالمجيد وعبدالعزيز وعبدالله، وأربع بنات، هن: مها وأسماء وليلى وهيلة. بروا به في حياته، وحزنوا لفراقه.
طيلة معرفتي بالعم عبدالرحمن لم أذكر أنه اعتذر عن عدم حضور مناسبة اجتماعية مهما كانت، داخل الرياض أو خارجها. وأذكر أنني قبل سنوات طويلة دعيتُ عمي لمناسبة بسيطة فحضرها رغم كثرة انشغالاته وارتباطاته، وشاركنا في تلك الليلة التي اعتذر عن عدم حضورها بعض الأقارب؛ فيا له من خُلق جزل، وسلوك نبيل، تعلمنا منه الكثير.
لله در تلك الأيام الجميلة التي كنّا نجتمع فيها مع عمي وعائلته أثناء الرحلات البرية. لقد كان عمي -وما زال- حاضراً بروحه النبيلة الطاهرة في نفوس ذويه وأقاربه وأصدقائه؛ ليرحل ويترك خلفه تلك المواقف الجميلة التي تعكس صفاء روحه، ونُبل معدنه - تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه -.
لقد كان عمي -رحمه الله- لا يتأخر عن مساعدة القريب والصديق مهما كانت الظروف، ولا يتوانى عن الشفاعة لمن يحتاج إليها، وكانت هذه الصفة الحميدة ملازمة له، لا تفارقه في كل مراحل حياته؛ فكان عندما يقصده من يطلب منه حاجةً يهبُّ لنجدته ولو كان ذلك في منتصف الليل. هذه كانت أبرز صفاته وأجلى خلاله -رحمه الله-؛ فقد جمع المروءة والكرم والنبل والسمت والنخوة.. فكانت شخصيته تمثل مزيجاً بين كل هذه الصفات الحميدة والنادرة، إلى جانب الهيبة والوقار، فهو كما وصفه الشاعر ابن عبد ربه الأندلسي:
وجه عليه من الحياء سكينة
ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يوماً عبده
ألقى عليه محبة في الناس
رحمك الله يا عمي، وجعل الجنة مثواك.. وإن ما يصبرنا على هذه المصيبة هو ذكراك العطرة الطيبة، وأفعالك النبيلة، والتزامك بالطاعات والتقى.. ولم أجد وصفاً لحياته أبلغ مما قاله الشاعر حافظ إبراهيم:
قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جدير
أسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن يغفر لعمي الشيخ عبدالرحمن الفيصل، ويرحمه، وأن يجعل الجنة مثواه، إنه سميع مجيب.