سليمان الجاسر الحربش
الفقيد هو الدكتور محمد بن أمين السعدي الوكيل الأسبق لوزارة الزراعة في المملكة العربية السعودية، وافته المنية، والله فعال لما يريد؛ فجر يوم الجمعة 27 شوال الموافق 21 يوليو 2017 بعد أن حاصرته بنات الدهر واحدة إثر أخرى.
خلف أبو أمين وراءه ثروة زاخرة من الأصدقاء كان لي ولأسرتي شرف الانتماء إليهم. الحديث عن هذا الراحل العزيز ذو أشجان وشجون؛ فمنذ سنوات كتبت أرثي زميلي وصديقي صالح المالك وختمت المقالة ببيت نسبه الرواة إلى أعرابية تنشد محتجة في رثاء أخيها فتقول:
فيا شجر الخابور مالك مورقاً
كأنك لم تجزع على ابن طريف
كنت أقول للمرحوم المالك وأنا أطارحه النقاش في بعض ما ترسب في الذهن من ذكريات الدراسة أن هذا البيت أصدق وأجمل من كل ما قالته الخنساء في رثاء أخيها صخر، إذ إنَّ هذه الأعرابية تقول للدنيا بكل بساطة وعفوية: اسكني فقد مات أخي.
ليتني أستطيع أن أرثي أخي وصديقي ورفيقي في السراء والضراء محمد السعدي (أبو أمين) بمثل هذه العفوية وهي قمة البلاغة. ولا يسع المرء أن يتمثل موقف هذه الأعرابية إلا عندما تذروه رياح الحزن في فقدان عزيز، وهي الحالة التي أعانيها منذ أن تلقيت النبأ المفجع.
خلف أبو أمين وراءه ثروة لا تقدر من الأصدقاء، وكانت صداقاته أشبه ما تكون بحديقة دون أسوار تنمو فيها شتى أنواع الأزهار والنباتات، وكذلك كانت مضافته مفتوحة للعامة قبل الخاصة حيثما حل:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
غير أن مضافة أبي أمين كانت مشرعة الأبواب في كل الفصول. بل إن من يقصدها يخرج طاعمًا كاسيًا مما لذ وطاب من مكارم الأخلاق. كان كريم النفس واليد وفياً رؤوفاً رحيماً بأولاده وأصحابه عندما يزبنون عليه. بيد أنَّ ما يجدر أن يعرفه الجميع عنه أن أبا أمين رحمه الله، وطوال رحلته الشاقة من غزة إلى جازان ثم الرياض، مروراً بسنوات الدراسة والتحصيل؛ ظلَّ على حبه لأمته ووطنيه الأول والثاني: فلسطين والمملكة العربية السعودية؛ يشهد بذلك بِرُّه و صنائعه. فأما عن وطنه الأول فلسطين فمآثره لا تحصى، ومن ذلك أذكر أنه عندما علم باعتزامي القيام بمهمة رسمية إلى فلسطين عام 2014 تشمل القدس والضفة الغربية، زارني في مكتبي وأكدت له النبأ، وقلت له ممازحًا منك خوة! فكادت الدموع تهمي من عينيه وقال: ليتني أستطيع أن أفعل مثل ذلك.. ثم أخرج من جيبه دفتر شيكاته وقال لي: كم تريد؟ فقلت: ما تجود به نفسك. فكتب شيكاً بمبلغ 150 ألف دولار أمريكي، وقال لي تصرف بالمبلغ مع المنح التي تخططون لتقديمها أثناء المهمة. وطلبت حضور الزملاء المختصين: مأمور الخزينة والمستشارة القانونية، ووثقنا تلقي هذه الهبة السخية، وأصدرنا عنها بيانًا صحفيًا يومئذٍ كان له أثر طيب في النفوس. وبعد المعتاد من التمحيص وتحري أجدر البرامج بالدعم، تقرر تقديم هذه المنحة إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي كانت تقدم العون للمهجرين من منازلهم إثر العدوان الغاشم الذي تعرضت له غزة في صيف ذلك العام، واقتُطع منه مبلغ 12 ألف دولار استُخدمت في دفع الرسوم الدراسية لطالب فلسطيني تخرج من كلية الطب لكن الجامعة لم تصدر شهادته لعجزه عن دفع الرسوم المستحقة. عندما عدت إلى فيينا وقصصت على أبي أمين رحمه الله كل وقائع المهمة، من القدس إلى رام الله إلى الخليل، إلى قرية بُدرس حيث زُرعت شجرة زيتون باسم أوفيد؛ طرب لما سمع، وتساقطت دموع الفرح هذه المرة من عينيه، ولا سيما عندما رويت له قصة الطالب الفلسطيني الذي استطاع أن يحصل على شهادته بفضل الله ثم بفضل منحة أبي أمين تلك.
وليس ما تقدم إلا غيضًا من فيض سخاء الفقيد وعطائه، إذ أوقف لله تعالى بناية يملكها لصالح وزارة الأوقاف في الأردن يكون ريعها لفقراء المسلمين، كما قام غفر الله له ببناء مسجد في كفر زيباد من أعمال طولكرم على أرض يملكها، وأنشأ مركز أبحاث في جامعة النجاح، وبنى مدرسة في مدينة نابلس كذلك، وتعهد العديد من الطلبة بالرعاية و المعونة لإتمام دراساتهم، وغيره كثير مما لا يتسع المجال لذكره.
وأما في وطنه المملكة، فكلنا يعلم أنه كان وكيلاً لوزارة الزراعة وعضواً بل مؤسساً للصندوق السعودي للتنمية مع الدكتور محسون جلال وتحت قيادة معالي الشيخ محمد أبالخيل، وعضواً في مجلس إدارة البنك الزراعي. بيد أنَّ دوره الحقيقي كمواطن مسؤول وموظف حمل الأمانة بكل نزاهة وشرف تجلى أثناء خدمته في جازان مديراً للشؤون الزراعية، وقد استفتيت في هذا الشأن ثلاثة من رجالات المنطقة هم الدكتور (طبيب) قاضي العقيلي عضو مجلس الشورى سابقاً، ومعالي الأستاذ أحمد الحكمي نائب وزير التخطيط وعضو مجلس الشورى سابقاً، والأخ إدريس طيري، وكلهم من أصدقاء المرحوم وقد أجمعوا على ما تحلى به الفقيد من أخلاق عالية وسلوك اجتماعي ومهني راقٍ أثناء عمله في المنطقة؛ ومن ذلك إشرافه على محطة التجارب الزراعية في قرية حاكمة، ومحاولته بثَّ الوعي الزراعي بين الأهالي، ثم اندماجه في الوسط الاجتماعي واستحواذه على قلوب الناس. و مما يُذكر عنه أنه كان يغادر مكتبه من بعد ظهر كل يوم خميس ويقوم بنقل طلاب الثانوية العامة من مدرسة معاذ بن جبل الثانوية في جيزان إلى أهاليهم في صبيا التي لم يكن فيها مدرسة ثانوية في ذلك الوقت. وقد ظلت علاقته بأهالي المنطقة قوية وودية للغاية حتى بعد أن أصبح وكيلاً للوزارة، ويذكره الأهالي ليس فقط لدوره في تنمية القطاع الزراعي في جازان وبخاصة دوره في إنشاء وصيانة سد وادي جازان؛ وإنما كذلك لما حافظ عليه من علاقات شخصية تمثلت في استقبال من يأتي للرياض منهم وقضاء حاجاتهم.
أولئك الذين يعلمون مدى علاقتي بصديقي وصفيي أبي أمين يقدرون ولا ريب ما أعانيه من أحزان كقطع الليل، فلقد سعدت وأسرتي بصداقته وشخصه الذي استوفى خير الخصال والشمائل من الوفاء، والكرم.. كان حافظاً لعهده صادقاً في وعده، وكان ممن رزقهم الله فضيلة التواضع في تصحيح موقف مائل. وعندما يفقد المرء شخصاً بهذه الصفات فإنه يفقد قيماً كانت جزءاً من زاده اليومي.. وما هو إلا أن يتلفت يمنة ويسرة، ويلح عليه صوت مجهول لا يملك أن يتجاهله:
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً
فإن البعض من بعض قريب
اللهم أني أستغفرك وأتوب إليك اللهم تقبل فقيدنا الغالي عبدك الأمين محمد السعدي، اللهم اغفر له وارحمه وعافِه واعفُ عنه واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
وأخيراً أسأل كل أصدقاء المرحوم وهم يقرأون هذه المقالة ويشاركونني بالترحم على الفقيد الغالي أن يرددوا الكلمات التي لطالما سمعها الفقيد منهم وهم بصحبته: أكرمك الله يا أبا أمين.