د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** الحديث عن الـ«ما بعد» يقترن بتطلعٍ إلى تغييرٍ ذي ملامحَ مختلفة؛ فمابعد «الكولونيالية» تدرس مرحلة التحرر من الاستعمار وتجاوزِ ما خلّفه من آثار، وما بعد «الحداثة» تتلافى إشكالات الحداثة وتنقض سيئاتها، وما بعد «الصحوة» تسعى لقراءة الفترة الصحوية وتقديم بديل عنها، وما بعد «الموت» يستدعي الحياة كما أن ما بعد «الحياة» امتداد لما قبلها؛ أكانت عدميةً كما يرى من يسمون: العقلانيين، أم غائيةً ذات مبتدأٍ وخبر مثلما يقتنع المؤمنون.
** توطئة لحوارٍ صامتٍ مع صديق مثقفٍ يكادُ يتابع كلَّ ما يكتبه صاحبكم فيعلق عن بعد - كما هي علاقتُهما في الواقع- معترضًا غالبًا وغيرَ منتظرٍ ردًا دائمًا، ولديه من الجرأة والصدق ما يجعل موضوعاته عصيةً على الفهم العام وربما الخاص، وبضعة أسطرٍ منه تحتاج إلى تفكيكٍ يمسُّ بنائيتها اللغوية الملتبسة ومعانيَها المندفعة الغامضة، وبالرغم من الاختلاف والضبابية فإنه يثير حكاياتٍ لا تردُ على بالِ الكاتب وإن أثْرت خياله.
** هنا تجيءُ حكاية الـ«مابعد»؛ فصديقنا - في آخر رسائله - يطرح موضوعًا مقلقًا عن «ما بعد العروبة» لا من وجهة نظر قلِق عليها، بل بتحفز مبشرٍ بزوالها وفناء ما تمثله من انتماءات فكرية ذات دلالات قدسية.
** لعله الرفض في زمن الفرض حين تستوطن نفوسَنا مشاعرُ اليأس والخوف، وقد تدفعنا إلى اعتمار نظارةٍ معتمةٍ لا ترى في الحياة التي ألِفناها معنىً يستحق الاحتفاء به أو الحفاظ عليه، وتجدُّ في الهروب إلى ما وراءه حلمًا يطوي فضاءات الضياع، مع أن «الما بعد» لا تقترن بالضياء حتمًا أو حكمًا؛ فما بعد الاستعمار أوجد ما هو أنكى بأرديةٍ وطنية، ولم تجلب مرحلة مابعد الحداثة غير الفوضى الثقافية، ولم نكد نغادر الصحوة حتى جاء ما بعدها استبدادًا ومكارثيةً تتقنع بالليبرالية، وما بعد الحياة -للعدميين والمؤمنين- لا يضمن النعيم.
** يطمح صديقنا إلى إنهاء الهُوية والانتقال إلى ما بعدها مقتنعًا أن العروبة وهم كبير آنَ اطّراحُه واعتمادُ البناء المحلي المستقل النائي عن أي امتداداتٍ إثنيةٍ أو ذهنيةٍ أو اعتقادية، وهو - بهذه الحديّة -إنما يمثّل صوتًا ضمن أصوات أوجعها طولُ المنام فشاءت الاستيقاظ في عالمٍ مختلف لا يرتبط بالأمس ولا بالناس.
** والمنتهى أن فكرة الـ«ما بعد» تتطلع إلى الغد بوصفه زاهيًا بهيًّا مرهصًا بتبدلاتٍ إيجابية دون أن تضع في حسابها الاحتمالات السلبية التي قد تحملها محطاتُ التغيير من انتكاساتٍ وارتكاساتٍ قد تدعو المتحمسَ لتمني العودة من حيث نطق وانطلق، و«رب يومٍ بكيتُ منه فلما... صرتُ في غيره بكيتُ عليه».
** الغدُ لا ينتظر من يساوم على انقلابه ولا من يسومُه سوءًا بإرثه الممتد في الـ«ما قبل»، وسيكون طيّعًا لمن يراه يومًا جديدًا يحمل بذور أهله وتربة أرضه وآفاق كونه، ولا غدَ لمن آنس الفصل ورمس الأصل.
** البَعدُ قبلٌ متجدد.