د.علي القرني
نعلم نحن المتخصصون في الدراسات الإعلامية ومن امتهن الأكاديمية الإعلامية، وخاصة من درس في جامعات أمريكية وأوروبية أن «الموضوعية» objecitivity هي مجرد شعار يطلقه إعلاميون ممارسون في مهنة الإعلام ويقصدون بذلك حماية أنفسهم من النقد والاتهام والمقاضاة. وهناك عشرات بل مئات الكتب باللغة الإنجليزية تتناول هذا الموضوع، وهناك آلاف الدراسات التي تناقش الموضوعية.
ولا شك أن هناك وجهتا نظر في هذا الخصوص، فالإعلاميون أنفسهم يرون أن الموضوعية مقدسة لديهم، ويجب أن يُتركوا ليمارسونها كما ينبغي، ولهذا فإن خط الدفاع الأول لهم عند أي محاولة نقد أو مجال اتهام، أن عملنا نحن في هذه الصحيفة أو القناة يسير على مبدأ الموضوعية. وهذا ما حملته قناة الجزيرة منذ تأسيسها بادعاء الموضوعية، حيث كانت بداية تأسيسها على أيادي مذيعي محطات الــ BBC الإنجليزية أو العربية، وحتى يختلفون عن باقي القنوات العربية الأخرى ابتدعوا (جميل عازر بالتحديد) شعار «الرأي والرأي الآخر» عام 1996 عند تأسيس القناة.
وهذا الشعار هو الذي يجسد مفهوم الموضوعية حسب رأي الإعلاميين في الغرب، حيث يرون أن الموضوعية هي استدعاء جميع الآراء ذات العلاقة بالموضوع.
ولكن أيضا في الغرب وهذا ما درسناه واستوعبناها تطبيقيا على قنوات أمريكية وأوربية أن الموضوعية هي «وهم» Myth، نعم مجرد وهم تعكسه مجموعة من الطقوس التي ابتدعها الإعلاميون من أجل أن يجنبوا أنفسهم المساءلة والتدقيق والاتهام والتحقيق والتقاضي والعقوبات. ولهذا فإن سلاح الموضوعية هو السلاح الذي يشهره الإعلاميون في وجه ناقدي الممارسة الإعلامية. وإذا قلنا أن الموضوعية هي الحياد، فهذا «وهم» آخر وأكثر تضليلا من الموضوعية ذاتها. ودعونا نوضح أكثر كيف اخترقت كثير من الدراسات الإعلامية النقدية هذا المبدأ (الموضوعية) وكشفت خفاياه وألاعيبه.
وربما كتاب شيلر «المتلاعبون بالعقول» وكتاب نعوم تشومسكي (صناعة الرضاء) نموذجان فقط عن أن الإعلام وادعاء الموضوعية هي كذبة كبرى ابتدعتها مؤسسات إعلامية بهدف التضليل المقنن الذي يحميهم من طائلة المساءلة والقانون. وإذا نزلنا إلى مستوى الممارسة الإعلامية حتى يتعرف القارئ أكثر على هذا النسق الذي ادعته ولا تزال تدعيه قناة الجزيرة حتى في زخم الحدث الأبرز في الخليج والمنطقة جراء المقاطعة الخليجية لحكومة قطر نتيجة دعمها وتمويلها لجماعات إرهابية.
وسأسوق هنا مثالا مبسطا يشرح كيف أن الموضوعية هي مجرد «وهم» وذرات غبار ترمى في عيون المشاهدين. لو التقط مصور فوتوغرافي صورة لحادث مروري بين سيارتين ونشره في صحيفته، فهذه الصورة هي التي سيراها الجمهور عن ذلك الحادث وربما معها بعض التفاصيل. ونحن نعلم تماما أن هذا المصور كان يقف في زاوية من زوايا المشهد، ولم يغطي الثمان جهات التي تحيط بالحادث. هذه الزاوية هي التي كان يقف عندها المصور الفتوغرافي هي نافذة الإعلام التي يطل من خلالها على المشهد العام للحادث، وبالتالي لن نتمكن نحن المشاهدون والقراء أن نطلع على السبع اتجاهات التي لم يغطيها الإعلام، وبهذا نكون قد حصلنا على صورة مشوهة عن الحدث. ونفس الشيء يقال عن تغطية تلفزيونية لحدث آخر، فتوقيت دخول الكمرة التلفزيونية للحدث هي نقطة واحدة في زمن المشاهدة، وهناك نقاط زمنية أخرى قبل وبعد تلك النقطة لم تهتم بها وسائل الإعلام، وهكذا تصلنا فقط ملامح وزوايا مشاهدة حددتها وسائل الإعلام.
فيما يتعلق بتغطية الأطراف المختلفة أو المتنازعة في موضوع أو قضية، والتي يعكس شعار قناة الجزيرة (الرأي والرأي الآخر)، فدعوني أوضح لعبة الجزيرة في هذا الشعار. وبدءا أؤكد أن الجزيرة تحاول أن تعكس وجهتي نظر الموضوع، ولكن يجب أن ندرك أن إبراز وتركيز الطرف الأول يختلف عن الطرف الثاني، فالطرف الأول يقع في مركز الاهتمام، بينما يكون الطرف الثاني في هامش التغطية. كما أن زاوية الرؤية مختلفة، ونقطة التلاقي متباينة. وإذا أخذنا الحدث الخليجي في إجماله رغم تفاصيله الكثيرة سنجد أن قناة الجزيرة غطت الطرفين ولكن تغطية الطرف الخليجي كان مبتورا مشوشا مشوها ناقصا ومن زاوية ورؤية ومصلحة الطرف الأول.
.......................................يتبع