د. فوزية البكر
بقدر ما يحمل دور المؤسسة التربوية من بساطة ومباشرة تتمثل في حقائق يومية نعيشها، وهي أننا نذهب إلى هذه المؤسسة كل يوم ونتعلم مهارات العصر المطلوبة حتى نصبح كبارا قادرين على كسب رزقنا، إلا أن دور المؤسسة التربوية يتعقد كثيرا إذا لمسنا الأثر اللا محدود الذي تتركه في حياتنا من حيث تشكيل أفكارنا وقيمنا الاجتماعية وممارساتنا الثقافية اليومية والعامة بحيث يصبح كل عضو مشارك في هذه المؤسسة من وزير وموظف ومعلم ورائد أنشطة وفراش.. إلخ: كله يشكل في النهاية المنظار الذي نطل من خلاله على العالم فما يقوله ويفعله معلم حريص على إتقان مادته غير ما يرسله معلم عجول ينتظره ألف طارئ خارج المدرسة، فلا يلقي بالاً لا للمادة ولا لطلابه.
من هنا، كان المعلم تحديداً أحد أكبر مصادر التاثير في حياة الطالب حتى إن عددا من البحوث أكدت على أن أثر معلم جيد تعليميا وقيميا فى عام دراسي واحد يوازي أثر معلم عادي يدرس الطالب لمدة ثلاث سنوات.
ولأن المعلم هو سر المهنة فعلاً، لذا بذلت الدول والمؤسسات المهنية أدواراً كثيرة من أجل إعادة تشكيل معلم يتحلى بأهم القيم والمعايير الوطنية والعالمية المطلوبة.
وتلعب المعايير المهنية للمعلمين مرجعاً مهماً يتم تدريب المعلمين من خلالها أثناء الدراسة، وخلال الخدمة لتساهم في تشكيل أطرهم المهنية والقيمية التي تضبط بوصلة أقوالهم وأفعالهم داخل المؤسسة التربوية. وفي حين تغرق كثير من الدول في استنباط معايير مهنية فضفاضة وغير محددة كالتي نتبناها هنا في المملكة مثل :(المعيار الأول من المعايير المهنية للمعلمين في وثيقة إطار المعايير المهنية والخاص بالقيم المهنية ومسئوليات المعلمين يقول:
(تجسيد نموذج القيم الإسلامية والثقافة السعودية في عملية التعليم)، وهذا شيء جيد جدا لأنه يحرص على نقل التراث الثقافي والحفاظ عليه في أجيال المستقبل لكنه لا يحدد بالضبط كيف يمكن للمعلم أن يفعل ذلك «أي أن يجسد السلوك الإسلامي أو الثقافة السعودية؟ هل هو بلبس الثوب؟ أو بتقصيره؟ هل هو بالتسامح أم التصلب والغلظة مع الرأي المخالف؟ هل هو بإماطة الأذى عن الطريق أو هو بالمبالغة في الكرم (حتى تكون سعوديا)؟ الخ)
مقابل العمومية الكبيرة التي تغرق فيها معايير معلمينا المحلية لنقرأ ألطف وأدق معايير مهنية مرت عليَّ خلال حياتي المهنية وهي الخاصة باليابان حيث أكدت على مفاهيم بسيطة وواضحة وسهلة الممارسة مثل:
1 - استيعاب القيم الحقيقية والخطيرة للزمن والوقت والعمر، إذ لا مستقبل لفرد أو أمة لا يؤرقها الوعي بالوقت بل تضع نفسها على أول طريق هذا الوعي.
2 - رغبة في العلم قبل العملية التعليمية ومواكبة لها، فلا قدرة على التعلم دون محبة له.
3 -إدراك معني السلام والسعي لتحقيقه، سلام مع النفس ومع الغير من مجتمعه وسلام شامل على الأرض قائم على العدل.
4 - الوعي بالمعنى الصحيح للسلطة والإدارة ومسئولية صاحبها تجاهها، وهكذا ينبغي أن تغرس التربية فكرة الحساب الدائم للضمير، وأمة تملك ضمائر أقوى من الأهواء الطاغية.
5 - الإحساس بالمسئولية تجاه الأرض وليس إفسادها، وعلى التربية أن تغرس اليقين بأن كل فرد عليه واجب يقوده في كل خطوة وفكرة وإجراء بأن يكون معمرا.
6 - الفهم لمكانة المال ودوره: أي أن يدرك أفراد الأمة قدرة المال على خدمة الحياة لا أن تسخر الحياة للمال، والوعي بعلاقة المال الحيوية بقيام الأمم وسقوطها، والعلم بالدور الحكيم للمال في مجال الفرد ودنيا الأمة، بحيث يؤثر ذلك في تعديل مسار جمع المال ثم الإنفاق في حياة الأسرة اليومية ثم بتصحيحه لمسار الإنفاق العام.)
انتهى النص.
كيف تمكن اليابانيون من أن يضعوا أيديهم على الاحتياجات الحقيقية لنا في حياتنا اليومية والعامة: تحديد معنى الوقت/ احترام البيئة/ معني السلام/ إدراك معني السلطة وطرق استخدامها/ معرفة معنى المال وكيفية إنفاقه.. إلخ من القيم العملية التي نضطر لممارستها كل يوم.
متى ستعاملنا المدارس كبشر طبيعيين يعيشون في عالم اليوم الكبير والمتغير فتساهم في خلق معلم الغد الذي لا يولد بصفات الصحابة والرهبان، بل بسمات المعلمين: المعلمون الحقيقيون الذين يحبون عملهم ويخلصون له مثل إخلاصهم لعائلاتهم.