محمد سليمان العنقري
اختصاراً يقصد بالتعليم العالي ما فوق الثانوي أيّ الجامعات والكليات التقنية والمعاهد المهنية التي يقبل الطلاب بها بعد حصولهم على شهادة الثانوية العامة ويعد التخطيط الصحي لتوزيع خريجي الثانوية على كافة التخصصات بتلك الصروح العلمية والتأهيلية أحد أهم عوامل نجاح خطط التنمية الاستراتيجية مثل رؤية المملكة 2030م.
ما يعيد الحديث عن التخطيط على مستوى الدولة للقبول بالجامعات والكليات والمعاهد هو أن هذه الأيام تشهد قبول خريجي الثانوية من الطلاب والطالبات في المسارات الدراسية المختلفة وكذلك بالتخصصات المباشرة، لكن هل تم التخطيط لهذا القبول وتوزيعاته حسب احتياجات رؤية المملكة الاستراتيجية وفق ما تحتاج القطاعات الاقتصادية المستهدفة بها والتي ستشكل الهوية الحديثة للاقتصاد الوطني؟ فالمدة المتبقية لتحقيق جل تقديرات أهداف الرؤية 13 عاماً وهي تمثل تحدياً كبيراً لترتيب كل العوامل والركائز التي ستحقق تلك الأهداف ومن أهمها تأهيل الكوادر البشرية من المواطنين والمواطنات والذي يفترض أن يتم التخطيط له على مستوى مجلس متخصص يضم العديد من الجهات المعنية التي يجب أن تزود منشآت التعليم العالي بالاحتياجات لعشرة أعوام قادمة من كافة التخصصات لرفع نسب التوطين وتلبية الأهداف الاستراتيجية للرؤية.
فعدد خريجي الثانوية سنوياً حوالي 300 ألف طالب وطالبة جل من يكملون دراستهم يقبلون بالجامعات وحوالي 10 % يقبلون بالكليات التقنية والمعاهد الفنية والمهنية، لكن ذلك لا يعني البناء عليه لإعطاء رأي **بتشوهات** القبول للدراسة ما بعد الثانوية من عدمه، فللوصول لدراسة تحدد مدى تطابق توزيع الطلبة على التخصصات كافة هو احتياجات الرؤية للتخصصات وفق برامجها وقطاعات الاقتصاد المستهدفة ولا يمكن للجامعات والكليات والمعاهد تحديد تلك الاحتياجات من ذاتها إذ لابد من معلومات تحدد وفق خطة عامة تفصيلية بالاحتياجات الفعلية لكل مسار أو تخصص حتى نحقق أكثر من هدف بوقت واحد منها توطين المهن الحرجة وخفض مخاطر الانكشاف المهني إضافة لتلبية احتياج القطاعات الكبرى المستهدفة الصناعية والخدمية وغيرها باحتياجها المستقبلي من التخصصات وأيضا تحقيق النجاح برفع نسبة الانفاق على البحث العلمي الذي يعد ركيزة أساسية لنمو الاقتصاد وتنافسيته.
فالقطاعات المستهدفة بالاقتصاد تتطلب جلها رفع نسبة المقبولين بالمسارات العلمية عموماً والتي لا يشكل الطلبة فيها حاليا أكثر من 15 % من الدارسين بالجامعات الذين يفوق عددهم 1،1 مليون طالب وطالبة وهي نسبة متواضعة جداً قياساً بما تحتاجه المملكة مستقبلاً وليس حالياً فقط مما يعني أنه لا يقبل أكثر من 45 ألف طالب وطالبة سنويا بالتخصصات العلمية قياساً بعدد خريجي الثانوية العامة السنوي، بينما نجد دولاً مثل كوريا الجنوبية تصل نسبة الدارسين بهذه التخصصات العلمية إلى حوالي
39 % من طلابها بالجامعات وهي الأولى عالمياً مما يعطيها ميزة تنافسية ضخمة مستقبلاً وهو ما يعزز النظرة التي تتوقع أن تكون كوريا قبل نهاية منتصف القرن الحالي أحد أكبر الاقتصادات الدولية العشرة بالابتكار والاختراعات وهو ما سيرفع معدلات النمو بها بنسب عالية وينقلها إلى دولة تنافس بالاختراعات وليس التطوير فقط، ولا يمكن الوصول لنقلة نوعية بالاقتصاد الوطني دون دور كبير للكوادر البشرية الوطنية المؤهلة بتخصصات علمية بمختلف أنواعها فالنمو الكبير الذي حدث منذ حوالي 12 عاماً بالاقتصاد الوطني كشف حجم الفجوة بين عدد المهندسين وغيرهم من التخصصات العلمية التي يحتاجها الاقتصاد وبين الحاصلين على هذه الشهادات أو الدارسين بالجامعات والكليات والمعاهد إذ يبلغ عدد المهنسين في المملكة قرابة 200 ألف مهندس نسبة المواطنين لا تزيد عن 35 % منهم وبعض التخصصات الهندسية لا يمثل المواطنين إلا حوالي 10 % من مجمل المهندسين بالمملكة كالهندسة الكهربائية أو المعمارية وإذا ما استمرت سياسات القبول ما بعد الثانوي بكافة التخصصات دون تخطيط وتوزيع مناسب لتلبية الاحتياج الحالي والمستقبلي فلن يكون تحقيق أهداف الرؤية بالنسب المرضية أو الظاهرة سواء بخفض البطالة وتوفير فرص العمل المجزية ورفع تنافسية الاقتصاد وتطوير البحث العلمي.
فإذا كانت وزارة التعليم ومعها وزارة العمل تخططان مثلاً لرفع نسب القبول بالمعاهد والكليات على حساب القبول بالجامعات فلابد أن تتم مراعاة العديد من النقاط أهمها نوعية التخصصات التي يتم خفض القبول بها وأيضا التي تستهدف لرفع نسب القبول بها فلا يمكن تصور أن وضع نسبة عامة لخفض القبول بالجامعات مثلاً يكون حلاً صحياً إذ لابد من زيادة القبول بالتخصصات العلمية الهندسية والصحية وكذلك الرياضيات وبقية العلوم المهمة مقابل خفضها بالتخصصات النظرية مع توزيع القبول أيضاً بالمعاهد على التخصصات التي يحتاجها الاقتصاد وتنسجم مع الرؤية فالتخطيط التفصيلي المبني على معلومات مأخوذة من الجهات المسؤولة عن القطاعات الاقتصادية وفق برامج الرؤية هو ما سيحقق الفائدة بالاعتماد على الكوادر الوطنية المؤهلة لإنجاح الرؤية وإنجاز التحول الاقتصادي، فلا يمكن إبقاء الاعتماد على الكوادر الأجنبية دائما في الطفرات أو التحولات الاقتصادية الاستراتيجية لأنه لابد من توطين المهن وتنشيط البحث العلمي ورفع جاذبية الاستثمار وتوسيع الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد لزيادة الإنتاج المحلي ورفع نسبة الصادرات غير النفطية وتقليل الواردات.
إن أهم تلك الخطوات لتحقيق الأهداف الكبرى بهيكلة توجهات الكوادر البشرية نحو التخصصات العلمية والمعنية كذلك هو « تأسيس مجلس تخطيط فرعي مرتبط بالرؤية الاستراتيجية « يضم كافة الجهات الرسمية المعنية وومثلي القطاع الخاص لرسم خطط القبول ما بعد الثانوي بالجامعات والكليات والمعاهد بالتخصصات وكذلك باحتياجات كل قطاع وكل منطقة وإلزام المنشآت التعليمية بها ومراقبة أدائها ومدى التزامها ليس بالقبول واستيعاب الطلاب وفق ما يحدد من تخصصات بل وكذلك مستوى مخرجات التعليم من خلال الأجهزة التي تقيم أداء الجامعات وتقيس مستوى الخريجين والمخرجات من خلال رفع كفاءة الإنفاق بتلك المنشآت وأيضا مدى استثمارها للمرافق التي تم بناؤها بعشرات المليارات وأثمر عن انتشار قرابة 30 جامعة حكومية ومئات الكليات والمعاهد بمختلف مناطق المملكة.