يُعد تاريخ النشر أحد جوانب التوثيق العلمي للحياة العلمية عامة والمؤلف خاصة، ويحدق المؤلف دائمًا على تاريخ النشر الأول الذي يبرهن فيه على بداياته الأولى في نشر إنتاجه العلمي؛ فالعديد من المؤلفين والباحثين يهتمون بإصدار إنتاجهم العلمي في شكل كتاب أو بحث أو مقالة، مُراعين في نشرهم التأريخ لأنفسهم في الإصدار المبكر؛ وهذا لا شك يعبر عن التأريخ لبدايات إسهاماتهم العلمية. وتطمئنهم دور النشر بقيامها بتسجيل المحتوى وعنوانه لإثبات الملكية وأيضًا حقوق النشر، فيما يعرف بالإيداع.
ولا يجد أحد بُدًا في التأريخ للإنتاج العلمي الذي يقدمه للمجتمع سوى المبادرة الجادة والسريعة في إخراج ما ينتهي منه من مؤلفات أو بحوث أو مقالات؛ وهذه المبادرة قد تأتي أحيانًا عن وعي بقيمة تاريخ النشر، ومن ناحية أخرى قد لا تأتي.
وبالإضافة إلى قيمة ذلك بالنسبة للمؤلف الذي اعتنى بالتبكير بنشر أعماله، حتى إذا ما وقفت جهة أو فرد على بداية اهتمامه واشتغاله تقف مستريحة البال، فليس الأمر مرتبطاً بالمظان.
كما أن السيرة العلمية للباحث أو المؤلف لا شك أنها تحتوي على سجل الإنتاج العلمي له؛ فهذا الانتاج العلمي هو في حد ذاته ذكر لما نشر له من مؤلفات وبحوث ومقالات، وما حضره من ندوات ومشاركات في المؤتمرات، والذين ينشرون عن وعي بقيمة تاريخ النشر هم يقومون بعمل منظم، ويجدولون مؤلفاتهم وأبحاثهم ومقالاتهم، وينظرون بعين الاعتبار إلى السيرة العلمية التي تدون كل ذلك، بدقة وأمانة.
من ناحية أخرى تبرز قيمة تاريخ النشر في المقارنة بين القديم والجديد، فالمنشور من مواد علمية بعد عام 2000م ليس كما هو منشور قبل عام 1500م أو بعده، ومن ثم تتجلى قيمة أخرى مضافة في متابعة تطور البحث العلمي والنظر في قيمة وقامة المؤلفين حول الموضوع الواحد، خلال تاريخ نشره؛ فالكتاب أو البحث المنشور عن موضوع ما في القديم، قد تختلف معالجته حديثاً حتى ولو كان تحت نفس العنوان.
أضف أيضاً من الأمانة حينما يتعرض الباحث لموضوعات أن يقوم بتكشيفها وفق تاريخ نشرها؛ فلعل في ذلك تتبع للملاحظات الجديدة، حتى يقدم ما بوسعه تقديمه من مادة جديدة في ضوء السابق؛ فيرتبط السابق باللاحق في ضوء تاريخ النشر.
كما يتبين الوقوف على الإصدارات الأولى للعمل العلمي الواحد في ضوء تاريخ النشر، وعلى سبيل المثال: الأعمال المحققة، فالمخطوط الذي نالته أيدي باحثين، يمكن بسهولة معرفة أيهما كان أسرع في الوصول إليه والاطلاع عليه، وكذلك تسجيله إذا ما كان تسجيله رسالة علمية، فيمكن بسهولة التبين من ذلك.
أضف أيضًا أنه من خلال «تاريخ النشر» يمكن الوقوف على جهود دور النشر ومبتدأ عملها في طباعة الكتب ونشرها وتسجيلها، بل ربما الأمر يصل في حد ذاته إلى التأريخ لإسهامات دور النشر، ومشاركاتها المختلفة. والمقارنة بين إصدارات دور النشر حول موضوعات بعينها في ضوء تاريخ نشرها هو في حد ذاته أيضًا متابعة للتطور الذي لحق بالبحث العلمي وميادينه من ظهور مؤلف جديد على سبيل المثال، أو بحث في أسبقية اعتناء دور النشر بهذا الموضوع من ذاك.
هذا فضلاً عن دراسة الموضوعات، فدراسة الموضوعات وفق تاريخ نشرها، هو في حد ذاته أمر مهم لمتابعة بداية الاهتمام والعناية بهذا الموضوع من غيره، وهو الإجابة على السؤال: متى بدأت العناية بهذا الموضوع؟، ولا شك أن «تاريخ النشر» سيسهم بدور كبير في تحديد ذلك.
كما يمكن الوقوف على الانتاج العلمي لموضوع ما في تاريخ معين من خلال تاريخ النشر، وهو كفيل بإيضاح مدى العناية بهذا الموضوع البحثي في أحد الأعوام على سبيل المثال. ومن ثم فيمكن التقرير بأن تناول ظاهرة موضوعية في أحد الأعوام وبحثها، قد يتبين ويتضح بشكل كبير إذا تم الاعتناء برصد تاريخ النشر لها.
ومن المتعلقات بتاريخ النشر: تاريخ النسخ، وهذا الجانب يتمثل في الجانب المخطوط الذي خطه مؤلفه؛ ثم قام أحد النساخ بنسخه، ففي ذلك أمران: الأول وهو معرفة متى كتب هذا الكتاب التراثي المخطوط، وفي أي حقبة تاريخية، لنقف منه على موضوعات تتعلق بالحياة العلمية والثقافية في العصر الذي ألفه فيه المؤلف، كما يتضح كذلك من ناحية أخرى الاعتناء بهذه المادة في عصر تال أو في ذات العصر فيما قام ناسخ بنسخه؛ وهو ما يبرهنه الاعتناء بجهود المؤلف وقيمة موضوع حتى نسخه أحد النساخ، وقام بإيداعه في المكتبة لينتفع به القراء والمطلعون والباحثون.
لذا سيظل تاريخ النشر هو أفق واسع ورحب ترصده بصيرة المؤلف والمحقق والباحث والمترجم ودور النشر مشتركة معهم، وكذا كل العناصر التي تشتغل في العمل العلمي والثقافي البحثي، ليقف كل منهم ويحدد متى بدأت إسهاماته.
** **
باحث دكتوراة -كلية الآداب - جامعة القاهرة