إبراهيم عبدالله العمار
أشرقت الشمس أحد أيام مايو 1999م على الجبال الثلجية في النرويج، وابتهجت الطبيبة الشابة آنا باغنهوم والتي خرجت مع اثنين من أصدقائها للتزلج على الجليد، وما هو إلا قليل حتى فقدت السيطرة وانزلقت في نهر أسفل كتلة ثلجية غمرتها تحت الماء وأخذت تغوص. هرع الصديقان وأمسكا بحذائيها في آخر لحظة قبل أن تبتلعها التيارات شديدة البرودة لكن هذا أقصى ما استطاعا. آنا أسفل الماء، أسفل قطعة جليدية ضخمة ولا تتنفس إلا من بقعة هوائية صغيرة بين الماء وقطعة الجليد، وأخذت تتجمد. تيار النهر يضربها ويستنفد حرارة جسمها، وملابسها تبللت وثقلت وتسحبها للأسفل، وهي وصديقاها عاجزون. أخرج أحدهما هاتفه واتصل بالإسعاف. خمد جسدها بعد 40 دقيقة من سقوطها، وهذا التجمد خدّر مخها وأوقف قلبها. بعد 40 دقيقة أخرى وصل الإسعاف وسحبوا جسدها الأزرق المرتخي وأخذوها للمستشفى، وهي بلا نبض ولا نَفَس. طبياً فإنَّ آنا شرعت في عملية الوفاة لما توقف قلبها، فهو لو توقف عدة دقائق فالشخص يتوفى أو يعيش معاقاً.
وصلت للمستشفى وحرارتها 14 درجة فقط، ولم يصل أحد لهذه المرحلة ويبقى حياً من قبل، ناهيك أن قلبها توقف منذ أكثر من ساعتين، وهنا يواجه الطبيب سؤالاً عسيراً: «ماذا أفعل؟». البديهة تقول: أنقذ مريضك! لكن قد تنقذ حياته ليعيش متخلفاً عقلياً أو معاقاً بقية عمره. يفكر الطبيب: لو كان مريضي يستطيع الكلام الآن فماذا سيقول؟ هل سيرغب في حياة كهذه؟
تعلق الأطباء بأمل ضئيل: أن البرد قد حفظ مخها. الآن يجب أن يرفعوا حرارتها لكن هذا صعب، فلا تكفي الملاءات الدافئة ولا رَفْع حرارة الغرفة، بل تحتاج آنا طاقة كبيرة تماثل غلي عشرات الأباريق، فاستخدموا جهاز المجازة القلبية الرئوية حيث أخذوا دمها المتثلج وسخنوه في الجهاز ثم أعادوه لجسدها، أسرع طريقة لرفع حرارتها وهي فكرة نظرية لم يعرفوا جدواها لكن لحسن حظهم نجحت، وارتفعت حرارة آنا من 14 إلى 31. وصل الدم الدافئ للقلب فقفز نابضاً لكن باضطراب، ثم استقر.
لم تنته المعركة! أثناء الإنعاش احتاجوا غرس أنبوبة توصل الأدوية لجسدها في عِرقٍ ضئيل. صعب جداً، خاصة أنه قريب من شريان حساس. جرحوا بالغلط شرياناً آخر، زاد القلق أضعافاً، فالدم يصعب تخثره في البرد، والآن قد تنزف للموت. نقلوا لها الدم وأدوية تخثير، بل فتحوا صدرها بعملية وعزلوا الشريان النازف. بعد ساعات مخيفة استقرت قليلاً، فأخرجوها من الإنعاش للعناية المركزة، حيث فشلت رئتها وانخفض الأكسجين فأوصلوها بجهاز يؤكسد الدم. لا زالت حية، معجزة بعد معجزة.
فتحت آنا عينيها لأول مرة منذ 12 يوماً، لكنها فوجئت أنها مشلولة من العنق فما دون، والآن يبرز السؤال المذكور: هل تنقذ شخصاً ليعيش مشلولاً؟ هذا ما فكر فيه الطاقم الطبي هناك، فقد صرخت عليهم آنا بغيظ: «لماذا أنقذتم حياتي؟!». غير ذلك فإن تكلفة العناية الطبية وصلت آلاف الدولارات، كل هذا لامرأة تفضل الموت الآن! ماذا تفعل لو كنت مكانهم؟
فيما تفكر في هذا السؤال، هناك نهاية سعيدة للقصة، فالذي شلّها ليس إصابة عمود فقري بل ضرر أعصاب، وبعد 6 سنين من العلاج الطبيعي الشاق تحركت أطرافها، وعادت للتزلج، بل واصلت الدراسة وذهبت تعمل في نفس المستشفى الذي أنقذ حياتها. سألوها ذات يوم السؤال الجوهري: لو كنتِ أنتِ المشرفة على إنقاذك ولا تدرين أتعيشين معاقة أم مشلولة، هل كنت ستعطين الضوء الأخضر للأطباء؟
نظرت له آنا وأجابت: نعم، وما يدريك ما يحمله المستقبل؟