علي الصراف
ثمة مواصفات «تقنية» للخبر الكاذب، يعرفها الصحفيون، ومن المفيد لكل قارئ أن يعرفها أيضًا.
أولاً: المصدر مجهول
عندما يقوم الصحفي بتقييد أكذوبته «ضد مجهول»، ولا يكشف عن مصدر معلوماته، فإنه لا يقصد بالضرورة حماية المصدر، وإنما حماية نفسه.
في الظروف العادية فإن القواعد تقول إن من حق الصحفي أن يخفي مصادر معلوماته؛ لكي يظل بوسعه كشف الحقيقة بشأن القضية التي يطرحها.. ولكن أين ينكشف الزيف؟ إنه ينكشف عندما يتم دفن الأكذوبة، ولا يتم كشف الأدلة على نحو موثوق في أي وقت لاحق.
ثانيًا: الاعتماد على مصدر واحد
عندما تكون القضية المثارة كبيرة فإنه ما من مؤسسة صحفية أو إعلامية محترمة تقبل بنشر خبر اعتمادًا على مصدر مجهول واحد. هذا خلل يكفي لقطع الرؤوس (بالمعنى الرمزي طبعًا)، حتى ولو كان الخبر صحيحًا.
عندما كشف أندرو غاليغان، كبير محرري الشؤون السياسية في البي بي سي، عن معلومات مثيرة للجدل بشأن البرنامج النووي العراقي، استقاها مباشرة من العالم النووي ديفيد كيلي، رئيس فريق المفتشين البريطانيين، واضطر إلى عدم الإفصاح عن هويته، فماذا حصل؟
لقد تم طرده من وظيفته؛ لأنه اعتمد على مصدر مجهول واحد، وذلك على الرغم من أن المعلومات كانت حقيقية بالفعل. كيلي وقتها أكد أن العراق لا يملك برنامجًا نوويًّا، بينما كانت الحكومة البريطانية تقول العكس، بل تريد العكس.
طبعًا، لو لم تكن المسألة تتعلق بسياسة رسمية، أرادت أن تلصق بالعراق كل شر، لتبرير غزوه، لكانت قد مرت على نحو أقل سفكًا للدماء، ولكن تداعياتها انتهت بطرد غاليغان، وبـ»انتحار» ديفيد كيلي.
ثالثًا: إضاعة الدم
كلما كانت «القصة» أبعد عن الواقع لجأ كاتبها - على نحو لا شعوري أحيانًا - إلى ما يشبه «تضييع دمها بين القبائل». بمعنى أن يعمد إلى إحالتها إلى «مسؤولين»، وليس إلى مسؤول واحد. لماذا؟ لأنه يخشى في النهاية أن يتعرض لضغوط تجبره على الكشف عن ذلك المسؤول الواحد، بينما يظل من الصعب تحديد هوية «المسؤولين» المجهولين كافة.
وهناك من يذهب أبعد، وذلك بأن يتهم «مسؤولين» مجهولين بناء على معلومات حصل عليها من «مسؤولين» آخرين مجهولين أيضًا. هكذا تكون «ضاعت الطاسة». (وهذا مثل شعبي لاثنين غطى وجهيهما الصابون في الحمام، ولم يعثرا على الطاسة لسكب الماء).
رابعًا: الهرب من الباب الخلفي
غالبًا ما تنطوي القصة الكاذبة على باب خلفي للهرب منها، بحيث تضيع المسؤولية عنها. وذلك من قبيل القول: «إلا أن مسؤولين آخرين قالوا.. كذا وكذا»، أو «إلا أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا تم تدبير الحدث على النحو الذي ذكره المسؤولون السابقون»، أو «ما إذا كان مدبرو الحدث قد دبروه بأنفسهم بالفعل»، أو «ما إذا كان هناك شركاء غامضون»... إلخ. كل هذا من أجل «تعكير» صفو القصة للحصول على مخرج منها.
خامسًا: الدوافع
في كل جريمة يتم ارتكابها فإن البحث عن الدافع يشكِّل أمرًا حيويًّا للمحققين. الأمر نفسه ينطبق على نشر القصص الكاذبة. فإذا ما توافرت سوابق لدى الصحيفة باتخاذ موقف مسبق حيال قضية ما أو بلد ما فإن قصتها غير المحايدة، والمنسوبة إلى مصادر غامضة، غالبًا ما تكون جزءًا طبيعيًّا من سياق الدوافع.
الآن عد لتقرأ خبر صحيفة «واشنطن بوست» الذي اتهم «مسؤولين» غامضين في الإمارات، بناء على معلومات «مسؤولين» غامضين أيضًا في الاستخبارات الأمريكية، بأنهم كانوا وراء «اختراق» وكالة الأنباء القطرية، فسوف ترى أن هذا الخبر «قياسي» إلى درجة أنه يصلح للتدريس في الأكاديميات والمدارس الصحفية كنموذج للخبر الكاذب.
أما أن تركض قطر وراء هذا الخبر؛ لتعلق تحقيقاتها بشأن الاختراق المزعوم، وتكتفي به «دليلاً» لتوجيه الاتهام للإمارات، فهذا نموذج «قياسي» لدولة لا يحكمها «أمير»، بل «رئيس تحرير».