حمّاد السالمي
سوق عكاظ؛ الذي تجدد ظهوره في محافظة الطائف؛ بعد توقف دام ألفاً وثلاثمائة وعشراً من السنين.. ليس سوقًا للحج والتجارة فقط، ولكنه سوق للثقافة والأدب والشعر، في وعاء لغوي عربي عظيم وعريق، نزل به الوحي المبين على سيدنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.. قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. فلغة العرب الفصيحة؛ هي لغة القرآن المحفوظة بحفظ القرآن إلى يوم الدين.
جاء عكاظ الحادي عشر هذا العام؛ وسبقت بشائر قدومه على شكل إعلانات في لوحات عريضة ترتفع في عشرات، بل مئات الأمكنة. أكبر هذه اللوحات وأشهرها مسبوق بفعل أمر على هذا الشكل: (عيش زمن عكاظ)..! و(عيش مسيرة عكاظ).. إلى غير ذلك من عبارات ورسوم يتقدمها فعل الأمر العليل: (عيش).
لأكثر من يومين سبقا الافتتاح، كانت عيناي تصطدمان بـ (عيش)، أين ما يممت وجهي في أنحاء الطائف المأنوس، الطائف التي ظهرت منها الأبجدية العربية بداية، وعرفت أول شكل من أشكال مدارس الصبيان على يد معلمهم: (الحجاج بن يوسف الثقفي)، قبل تحوله إلى القيادة والحكم.
كنت أحدث نفسي وأقول: هل من وقت لإصلاح هذا الخطأ اللغوي في: (عيش) إلى (عِشْ)، الذي يأتي في صدارة تقديم تظاهرة ثقافية سنوية كبيرة، يشهدها العرب من مائهم في الخليج، إلى مائهم في الأطلسي..؟ كيف السبيل إلى ذلك..؟ لا أدري كيف ربطت بين حالي في هذا الإشكال؛ مع حال ذلك القروي العراقي، الذي قيل أنه هبط ذات يوم لأول مرة بغداد في عهد الرئيس صدام حسين، فكان يسير في الشوارع فلا يقع نظره إلا على صورة لسيادة الرئيس.. حتى جُن الرجل، وراح يردد مع نفسه في صوت مسموع: (شي يلمّها.. شي يلمّها)، فشك فيه رجال الأمن، وقبضوا عليه، فما كان رده إلا أن قال: (قصدي.. من يستطيع جمع كل هذه الجداريات بعد وفاة السيد الرئيس الله يحفظه).
غلطة لغوية ما كان ينبغي أن تكون أبدًا، وفي تقديم المهرجان، ولو توقف الحال عندها لربما قلنا: (غلطة مُنظم تاجر)، وتصحح بإشراف مختصين لغويين في الأعوام القادمة.. ولكن.. يأتيك من ينسب على مسرح حفل الافتتاح قصيدة: (تعلق قلبي طَفْلة عربية)، إلى الشاعر العربي الكبير: (امرؤ القيس)، أمير شعراء الجاهلية، وصاحب أشهر معلقات سوق عكاظ في زمنه، في حين أن الراجح؛ أنها ليست من شعر امرؤ القيس، لا نقلاً ولا عقلاً.
فالقصيدة؛ لم يروها أي من الرواة الثقات أو خلافه، وقد لا توجد إلا في حكاية ابن طولون في: (مسامع السامر)، وهو كتاب غير موثوق به فيما يورد باحثون. وهي عقلاً لا ترقى لقصيد ونشيد (الملك الضليل.. امرؤ القيس)، الذي يقف على الأطلال ويبكيها بأعذب الكلم:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى، بين الدخول فحومل
والشاعر الذي يصف حيلة حبيبته؛ لمسح آثار خطاهما، لتخفي على الحي خلوتهما فيقول:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرينا ذيل مرط مرجل
أيعقل لعملاق كهذا أن يقول:
وكاف وكفكاف وكفي بكفها
وكاف كفوف الود من وصلها انفصل
ثم يكرر (الكم)؛ بهذا الإسفاف المسيء للشعر وللغة الشعر بهذا القول:
وكمكم وكمكمتم وكمكم وكم وكم..
وكذلك وعنن وعننتم وعنن وعن وعن
ذهب كثير من الباحثين والنقاد؛ إلى أن هذه القصيدة المغناة المشهورة بهذا المطلع الغنائي: (تعلق قلبي طَفْلة عربية)؛ ومطلعها كما ورد:
لِمَـن طَلَـلٌ بَيـنَ الجُدَيَّـةِ والجَبَـلْ
مَحَلٌ قَدِيمُ العَهدِ طَالَـت بِـهِ الطِّيَـلْ
هي ليست من شعر امرؤ القيس، ولم يرد اسم قائلها، ولعلها ظهرت في قرون هجرية متأخرة، ثم نسبت لهذا الشاعر الفحل، حتى تشتهر وتنتشر، كما درج على هذا بعض الشعراء في تلك الفترة.
ليس هذا فقط؛ فقد شاهدنا وبخطوط عريضة؛ جملة على شاشات العرض وفي أرجاء سوق عكاظ تقول: (الدورة الحادية عشر)..! بقصد: (الدورة الحادية عشرة). ولاحظوا كيف يتجرأ رعاة التسويق والإعلان على اللغة الفصحى، في مهرجان هو للغة أقرب من الكسب والتجارة.
قلت: كان ينبغي عرض ما له صلة بالشعر واللغة في برامج وأدبيات مهرجان سوق عكاظ؛ على مختصين عارفين، قبل الخروج إلى النّظّارة في الشوارع والساحات والشاشات وخشبات المسرح، فعكاظ تظاهرة ثقافية عربية تمثلنا نحن بلد القرآن ولغته العربية العظيمة.
أقول هذا من باب: (رحم الله امرأً أهداني عيوبي)، ومنها ما ظهر أنه ارتباك إداري. وهذا كله بطبيعة الحال؛ لا يقلل من الجهود الكبيرة التي بذلت في عكاظ الحادي عشر، من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ومن كافة الجهات المشاركة، وأخص بالذكر؛ جهود جامعة الطائف اللافتة، في تولي الجوانب الثقافية بالكامل، والتي كانت محط ثناء ضيوف عكاظ. ومن شركة الطائف للاستثمار والسياحة، وكذلك مشاركة جمعية الثقافة والفنون، التي قدمت ما يعزز مكانتها المرموقة في الغناء والمسرح والفنون التشكيلية والشعبية، فهي رائدة وقائدة بين كافة الفروع في المملكة دائمًا.
قلت أعلاه: (عِشْ.. مستقبل عكاظ)، وهذه دعوة للشباب السعودي، وشباب الطائف على وجه خاص، من أجل الانخراط في كافة الجهود المبذولة للرقي بمهرجان سوق عكاظ السنوي، حتى يصبح علامة بارزة على خارطة الاستثمار السياحي والمعرفي، الذي نتطلع إليه في بلادنا طيلة العام؛ وليس عشرة أيام من كل عام.