أجساد نحيلة جافة تُزهر حُباً وفرحاً.. ووجوه متجعّدة شاحبة تقطر وقاراً وحياءً.. وأكُفٌ متقطّعة متشقّقة تندى بالعطاء.. أمانيهم الأجر والجنة.. وآمالهم القالات والأمداح.. وطموحاتهم إكرام ضيف ونصرة ضعيف وإيواء جار وطرد عار..
ليس لديهم من متاع الدنيا إلا المُتعة والفرح.. فالزير صديقهم والرقص لغتهم والغناء أنفاسهم..
في تلك الأيام الشداد الملاح.. كان ذلك الابن النحيل ذو الثمانية عشر ربيعاً ككل الأبناء في (زمن الهكبة).. سافر واغترب عن الديرة بحثاً عن لقمة عيش، يسد بها رمقه.. ولتوفير ما يستطيع من مال ليرسله إلى (الشيبة) في الديرة.. لعلّه يتفكّك (الركايب) المرهونة في (أمداد شعير).. ولعلّه يحفظ ما تبقّى من (ماء وجه الشيبة المتصحّر) من غلبة الدين ومن شدة الفقر والفاقة..
توجه إلى بطحان (بيدة) وما عنده إلا وجه الله الكريم ثم (ثوبه في حلقه) ليجد في قرية بيدة من (يكري عليه بالآجل) مع أصحاب السيارات.. وسافر إلى الرياض فأراد الله أن يفتح عليه بعمل بسيط، جمع منه بعض المال الذي بدأ به تحقيق الحلم ومشروع العمر ونقطة التحول.. قبل أن يقتل (الشيبة) تلك الطموحات والأمنيات.
كان الناس بمثابة (الاتصالات والبريد)؛ فأخبار أبناء الجماعة يعرفها زهران من قاصيها إلى دانيها.. فالناس قليلون وقلوبهم مؤتلفة.. عاد أحد أفراد الجماعة من الرياض.. وما إن سمع (الشيبة) بالخبر حتى ذهب إليه (مُسلّماً ومُحيّياً) ولعله يلتمس أخبار ابنه المغترب..
وصل الشيبة وأعطى العلوم وأخذ العلوم.. ثم سأل عن ابنه وما آل إليه أمره.. فأخبره ذلك الرجل المسافر بأن أمور ابنه تيسّرت، وكربه انفرجت.. وقال: «آهو ولدك فلان (بسط له مطعم)..».
ولكن هذه البشارة لم يتمنّ سماعها الشيبة (خبرٌ كالصاعقة).. بـ»صيوان» أذنه الكريمة سمعها الشيبة.. فدقّت طبلة أُذنه طبول الشيمة والكرم إيذاناً بالحرب على هذا (الابن البخيل) كما ترجمها (عقل الشيبة)..
انصرف الشيبة إلى منزله يجر أذيال خيبة الأمل.. خيبة الأمل فيما ربّى عليه ابنه من كرم وشهامة.. ولسان حاله يقول (بنغدي هروج عصريّة في زهران)..
بات تلك الليلة (يفترش جمر الشرهة.. ويلتحف زمهرير الفشيلة).. كما تصور.. لينطلق صباحاً إلى بيدة.. في رحلة اللحاق بابنه (البخيل.. بحسب قيمه متعاليمه ومثله)..
سافر الشيبة.. يكابد العناء والألم ووعورة الطريق وطول المسافة إلى الرياض في تلك السيارات المتهالكة.. فقد بلغ من العمر عتيّاً.. وجسده النحيل لا يحتمل تلك المطبات والبطانيج فلقد (أخذ في حياته نعمه).. تشويه الشمس وتلفحه السموم لمدة 7 أيام حتى وصل الرياض..
وصل وقت الضحى وسأل عن (عزبة الزهارين).. فأخبروه بمكانها ثم توجه إليها.. لم يجد في تلك العزبة (الصندقة) إلا رجلاً واحداً لم يحالفه الحظ في الحصول على عمل.. أمّا البقية فكلٌ في فلكه يسبح (اللي يشتغل حمّال.. واللي يوزع ثلج.. واللي يسقي.. واللي سوّاق وما أدراك ما السواق).. سأل الشيبة ذلك الرجل: وين ولدي فلان!؟ فأجابه الرجل بأن ابنه في مطعمه..
قال الشيبة: ودّني له.. فذهبوا.. ووصلوا المطعم.. ودخل الشيبة (وانفزر وسط المطعم).. وما إن رآه الابن حتى صرخ (أبيييييييه).. يالله حيّه.. يا نا فدى من بدى.. ثم انطلق ليصافح ويحتضن والده.. ولكن الشيبة تعزوى وتنحّى عن ابنه وقال: «تخسى وتعقب ماني أبوك».. فما كان من الابن إلا أنْ انحنى وبكى.. وسأل أباه: «يبه.. وش سوّيت علشان تتبرّى منّي!!؟؟» قال الشيبة: (((نحن.. ما نبيع الأكل))).. إن جانا ضيف أكرمناه.. وإن جانا فقير تصدقنا عليه.. وأنت تبيع الأكل!!!؟؟؟ فما كان من الابن إلاّ أن قام بتقبيل المطعم (باع المطعم) رضاءً لله ثم للشيبة.. فرضي الشيبة.. ثم عاد أدراجه إلى الديرة في صباح اليوم التالي.. بعد أن ذبّ عن سمعته وسمعة العائلة وسمعة زهران كافة..
عاد (الشيبة) منتصراً على البخل والعار.. ولكنّه يعلم يقيناً بأنه سيواصل معركته مع (الدّيانة) من جديد ولكن في ساحة الشرف..
***انتهى***
بطل قصتنا (الابن) ترك تلك التجارة المُباحة شرعاً.. والمُحرمة عُرفاً في قانون الكرماء الأسخياء.. كل ذلك لرضا الله ثم رضا الشيبة.. فعوّضه الله خيراً منها.. فأصبح بعد فترة من الزمن تاجر ذهب ووكيل إحدى شركات الساعات العالمية في السعودية (يعني مليونيرًا)..
لم أبالغ في هذه القصة.. وأبطالها من الديرة الشرقية لزهران.. فليست غريبة على أولئك الكرماء الأسخياء في زمن الجوع.. أولئك الذين يدّخرون أجود ما تنتجه مزارعهم ليكرموا به ضيوفهم.. بينما يأكلون وأهليهم أردأ ما تنتجه تلك المزارع.. فكانوا يستشعرون الآية الكريمة {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
وليست غريبة على من كان (الحجاج) يربطون (أكياس زادهم) منذ دخولهم لبلاد زهران حتى الخروج منها.. فهم في ديار الكرم والجود.. فلقد قرأت هذه المعلومة في أكثر من كتاب، وسمعتها من أكثر من رجل.
خالد الدحية الزهراني - جدة