قبل أن ينتقلَ إلى القرية، مستدرجًا الموتَ إليه بإهماله لمواعيد المستشفى، كان يسكنُ في بيتي أيّامه الأخيرة، مثلما كان يسكنه في بدايات حياتي الزوجيّة.
كان رجلًا هادئًا حنونًا، يرى فيّ ابنته التي تستحقُ أن تُحملَ على أكُفّ الراحة؛ لأنّها ابنة لتلك المرأة التي كانت تسترهُ كلّما جاء متأخرًا إلى بيت عائلة محافظة.
كان عندما يأتي من القرية إلى العاصمة لمراجعة بعض المعاملات التي تخصّهُ يحرصُ على ألّا يُحدثَ ضجيجًا في حياتي.
يُخيّل إليّ أنّه كان يُمارسُ الحياة في بيتي على رؤوس أصابعه!
لم يتغير عن أوّل معرفتي به، وأنا طفلة في بيت والدي؛ حيث كان يهربُ من العمل؛ لينام، وأحيانًا ليرتاح في المجلس بهدوء؛ أو يتخلص من ضجيج قصيدة أقلقته، قبل أن تَدُبَّ الحياة الصاخبة في منزلنا الكبير الذي نذره والدي مَعْبرًا للوافدين من أبناء القبيلة من خارج المدينة.
كان ينتظر ريثما يعود والدي من العمل، وفي تلك الأثناء كان لا يطلب شيئًا حتى
لا يُثْقل على أحد.
يعيش صمته، والزمن الذي يريد؛ ليخرج بقصيدة تصير حديث المساء في بهو المنزل؛
حيث تتربع جدتي، وتتحلق من حولها بقية الأسرة.
كنتُ حُبلى بمولودي البكر، وأنا في الثانوية العامة، وكان يأتي برفقة زوجي في سيارة واحدة؛ لاصطحابي إلى المنزل، وقبل أن نصلَ إليهِ كان يُقْسم أَيْمانًا مُغلّظة أن يشتري الغداء كي لا أطبخ.
كانت سعادة كبيرة لامرأة صغيرة، تحمل مع هزال جسدها كائنًا يمتص طاقتها.
سعادة استثمرها في حل الواجبات والتحضير، حتى لا أضطر إلى تأديتها قُبيل صلاة الفجر كما كنت أفعل دائمًا.
كان المحامي الذي يدافع عن أغلاطي الصغيرة، التي أرتكبها كلّما نسيت الملح, أو زدته في الطعام, أو أحرقت نصف الطبخة لغفوة متعبة.
كل هذه المحاماة، والدفاع المستميت، وهو لا يرى منّي غير سوادي حنبلّي المذهب، وأنا خارجة من المدرسة؛ لأركب السيارة.
كنتُ أضع له كل ما يحتاج إليه من وراء حجاب، ثم أطرق الباب ثلاثًا، أقفله بعدها بالمفتاح، وانتظر حسيس قدميه؛ لأعود بعده لمذاكرتي.
في أيامه الأخيرة؛ ازداد صمتًا و هدوءًا
كان رجلًا حتى في مرضه!
لم يُحاول التشبث بالحياة أكثر مما يجب.
كان شجاعًا في مواجهة الموت، فلم يتعرَ أمام هشاشة الخوف التي يقضي معظم الرجال العمر في تخبئتها، وتظهر صادمة في الفجائع.
ألم تتليّف الكبد تمامًا؟
من قال لك إنّ جسدي بعد هذا العمر سيتقبّلُ عضوًا ليس منه؟!
أتريد منّي أن أُسلّمَ نفسي لمباضع الأطباء، ليُهينوا عجزي؟!
دعني أقضي ما تبقى لي من عمر في القرية، وإذا جاء أجلي، لا أنت، ولا غيرك ستحجبونه عنّي.
كانت هذه المرة الأولى التي أستمع فيها لصوته، وهو يعلو على صوت زوجي، الذي كان يحاول جاهدًا أن يهبَ له الحياة مهما كلّف الأمر.
مات في القرية الوادعة - تحت رحمة الله- هاربًا من رحمة الأجهزة المعقدة.
رحل الرّجل الذي اتهموه بالعربدة، وأقفلوا في وجهه أبوابهم.
رحل غاضّ البصر، طاهر الرُّوح تاركًا للحمقى إثم الظّنون.
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي
Zakyah11@gmail.com