قاسم حول
نشرت صحيفة ها آرتس الإسرائيلية بتاريخ الأول من شهر يوليو - تموز 2017 مقالة للكاتبة اليسارية الإسرائيلية «عوفر أديريت» عن العلب السينمائية الفلسطينية قياس ستة عشر مليمتراً والمحفوظة في مخزن تابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، والتي توضح الكاتبة أن الوثائق الفلسطينية المحفوظة في أرشيف وزارة الدفاع إنما هي «غنائم حرب» حصلت عليها إسرائيل حين غزت الأراضي اللبنانية عام 1982! ومع أن المعلومات المنشورة في المقال ناقصة كثيراً وتحتاج إلى بحث أكثر عمقاً كي تتسم الدراسة بالموضوعية الشاملة، فإن الكاتبة قد سلطت الضوء على «بعض» الحقائق المتعلِّقة بالأرشيف الفلسطيني ضمن أرشيف وزارة الدفاع الإسرائيلية!
تقول الكاتبة الإسرائيلية في صحيفة ها آرتس «لم أصدق ما رأيته بالفعل، لماذا تخزن هذه المواد في أرشيف جيش الدفاع اعتباراً من عام 1919 وعلى الثانية لوحات للأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة ويعيشون في مخيمات للاجئين ويتوقون العودة إلى فلسطين. أما الثالثة فكتب عليها تصوير معاملة الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين. ومن المدهش حقاً أن تجد بكرات 16 مليمتراً في الأرشيف المركزي الذي يوثق الأنشطة العسكرية الأمنية الإسرائيلية بالذات. يقع مبنى هذا الأرشيف في تل هومشير بالقرب من مركز التجنيد الوطني للجيش خارج تل أبيب. لا تمثِّل هذه المواد الثلاث سوى قطرات في محيط كبير يبلغ حوالي 38 ألف فيلم ومليونين وسبعمائة ألف صورة وستة وتسعين ألف تسجيل صوتي وستة وأربعين خريطة وصور جوية تم جمعها في أرشيف الجيش الإسرائيلي منذ العام 1948 بأمر من أول رئيس وزراء إسرائيلي ووزير الدفاع ديفيد بن غوريون. وعند التدقيق سيتبين أن هذه القطرات الضائعة في هذا المحيط تحمل تأثيراً هائلاً واستثنائياً وتتمتع بأهمية كبيرة للغاية. تمثّل هذه اللقطات مجرد جزء من مجموعة غنائم الحرب من الأفلام التي لا يزال حجمها وتفاصيلها الكاملة مجهولة تماماً، والتي استولى عليها الجيش الإسرائيلي من الأرشيفات الفلسطينية من خلال الغارات والمداهمات التي نفذها على مر السنين، وفي مقدمتها حرب لبنان عام 1982» .
في الجانب المتعلق بالدولة العبرية، فإن مؤتمر «بال - بازل» في سويسرها الذي انعقد في العام 1897 كان قد أوصى بضرورة استثمار الصورة المتحركة لصالح الوطن القومي لليهود في فلسطين. وكانت الصورة المتحركة قد مضى على اختراعها ثلاث سنوات فقط عام 1894 وعامان فقط على مشاهدة أول عرض سينمائي على الشاشة عام 1895. وهذا لا شك ينم عن فطنة يهودية يتسم بها اليهود، ويتسم بها الفلسطينيون أيضا، فإنهم عاشوا تاريخا واحدا وأرضا واحدة ومناخاً واحدا، وزيتونا واحداً. لكن اليهود اهتموا بالمال إضافة إلى الميديا، وكانوا أوفياء لـ «ثيودور هرتزل» في نصيحته في مؤتمر بال بسويسرا، في استثمار الصورة السينمائية المتحركة لصالح الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، ونصيحته في استثمار السيولة النقدية لتحقيق هذا الهدف. فهيمن اليهود على المصارف، وكازينوهات القمار وملاعب الرياضة والمزادات العلنية للمقتنيات واللوحات، وتمكنوا من امتلاك ناصية العالم. واليوم يلاحظ أن كل الجرائم التي نفذتها الدولة العبرية بحق الإنسانية وبحق الفلسطينيين، يتم تغطيتها إعلامياً عن طربق بث كل شاشات القنوات الفضائية في العالم للجرائم النازية بحق اليهود وأفران الإبادة بعد الحرب العالمية الثانية. يجري هذا بعد كل عدوان على غزة، بعد كل اغتيال سياسي، بعد كل مجزرة ابتداءً من كفر قاسم ومجازر صبرا وشاتيلا، وبعد الاعتداء على الجنوب اللبناني وبعد كل الحروب الإسرائيلية ضد العرب. لتسارع كل وسائل الإعلام التي تهيمن عليها الدولة العبرية إلى بث مجازر حرق اليهود بأفران الغاز، بعد الحرب العالمية الثانية، من قبل النازية الألمانية.
لا شك أن الجرائم النازية ضد اليهود هي جرائم يندى لها جبين الإنسانية. وأنا أقف ضدها وضد النازية في عملية الإبادة الجماعية، ولكن الوسائل الإعلامية التي جسدت تلك الجرائم قد بالغت كثيراً، فأنتجت آلاف الأفلام الروائية والوثائقية عن تلك الحقبة المخجلة في التاريخ الإنساني، ولكن في المقابل فإن الشاشات التي تجسد تلك الجرائم تعزف عن بث شريط وثائقي قصير عن مجزرة ضد الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيوت من الصفيح، حيث تم نحر ألف وخمسمائة إنسان بريء في ليلة واحدة، جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء من الفلسطينيين واللبنانيين الذين يتقاسمون السكن في تلك المخيمات البسيطة!
لا أعتقد أن ألمانيا امتلكت في ذلك الوقت هذا العدد من الكاميرات السينمائية التي مكنت نشرها، في كل زاوية وفي كل شارع وبيت ونفق وساحة، ونصبها على متن كل طائرة عسكرية، لذلك فإن توثيق تلك الجرائم بحق اليهود وما شاهدناه في الأفلام الوثائقية هو غير دقيق وينطوي على تظليل إعلامي وتزييف بصدد المبالغة في تجسيد تلك الجرائم وابتزاز عواطف الرأي العام العالمي، لما تمتلكه الصورة المتحركة من التأثير السيكولوجي والفيزيائي على المتلقي. فعمدت وسائل الإعلام الصهيونية على استدعاء مخرج أفلام الرعب «ألفريد هتشكوك» على فبركة مشاهد مخيفة «بصيغة وثائقية» وليست روائية وبمادة فلمية تدخل في مخابر الأفلام لتحويلها إلى أفلام تبدو قديمة ومستهلكة توحي بالماضي، وتعرض على أنها حقائق موضوعية داخل أنفاق يقتاد فيها اليهود إلى الأفران الحارقة أو مقاصل الإعدام. وهذا ما أشارت له بعض الصحف الألمانية، وقد شاهدت نماذج من هذه الأفلام أو بالأحرى الوثائق التي تحولت إلى أفلام، وأنا كمخرج سينمائي أستطيع أن أرقب بدقة مدى صدق الوثيقة وواقعيتها.
فيلم الهوية الفلسطينية
ومن أجل كشف الحقائق الموضوعية لما جرى من نهب الأفلام واعتبارها «غنائم حرب» وكوني أحد الذين فقدوا أفلامهم ضمن تلك الغنائم المنهوبة من مستودعات منظمة التحرير الفلسطينية، فإني نفذت فيلماً وثائقياً أسميته «الهوية الفلسطينية» بعد أن غزت الدولة العبرية لبنان عام 1982 واحتلال العاصمة بيروت، مستبيحة حريتها وأحلامها على مرأى ومسمع من الإعلام العالمي الذي كرَّس قنواته الفضائية لإعادة عروض الأفلام الروائية والوثائقية عن اضطهاد النازية لليهود حتى تبعد المتلقي في العالم عن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق لبنان والفلسطينيين، ونهب وثائقهم وذاكرتهم كغنائم حرب.
عرضت في الفيلم ما يثبت أن الدولة العبرية بجريمتها هذه تستهدف محو الهوية الفلسطينية المتمثلة بوثيقة الإرث والتاريخ والتشبث بالعادات والتقاليد والثقافة التي تشكل الأفلام الفلسطينية المنهوبة جانبا من الهوية الفلسطينية. حاورت في الفيلم عدداً من الشخصيات الفلسطينية لما جرى من نهب للوثائق المنهوية، ومن بينهم الشاعر «محمود درويش» الذي جاء حديثه في الفيلم واضحاً في استهداف إسرائيل لمحو الهوية الفلسطينية.
يقول الشاعر الراحل محمود درويش من خلال فيلم «الهوية الفلسطينية»:
«يبدو لي من الضروري أن نستوعب جيداً أن المشروع الإسرائيلي تجاه نفسه وتجاه الشعب الفلسطيني لا يتأسس في وعيه إلا على أساس إلغاء مقومات الوجود الفلسطيني والشخصية الفلسطينية سواء كانت هذه المقومات على مستوى العلاقة بين الإنسان والأرض أو بين التاريخ والذاكرة، لأن العملية الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية منذ تأسيس المشروع الصهيوني حتى الآن وعلى المستوى الإيديولوجي، وعلى المستوى العملية السياسية، لم تقدم لنا ولا للمراقب الأجنبي غير هذا الفهم الإسرائيلي الذي يبدو أنه قد آن الأوان لنا جميعاً، أن ندرك ذلك بالنسبة لمستوى مستقبل عملنا السياسي، وفي هذا المجال فإن الاعتداء على الثقافة الفلسطينية هو جزء من عملية الإبادة الإسرائيلية المخططة والواعية للشخصية الفلسطينية. ونحن نرى جميعاً أن الحق الإسرائيلي المدعى على الأرض الفلسطينية تاريخ عن صياغة علاقة ميثولوجية بين الإنسان الإسرائيلي والأرض الفلسطينية، لذلك فإن ساحة الصراع على أرضية الوجود أوصلت الوعي الصهيوني إلى حتمية الإبادة، لأن الشخصية الفلسطينية هي النقيض التاريخي للادعاء الصهيوني الحقوقي على أرض فلسطين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الوجود الإسرائيلي الذي يعبر عن نفسه بأنه امتداد حضاري وثقافي للغرب محتاج إلى البرهنة لنفسه أولاً، ولأنصاره بالغرب ثانياً، بأن هذه الأرض الفلسطينية هي أرض خالية، ليس فقط من السكان، إنما من العلاقة بين الإنسان والأرض والتاريخ، أي خالية من الثقافة .. ونحن نعرف أن نمو الثقافة الفلسطينية في هذه العلاقة الثلاثية بين الأرض والإنسان والذاكرة، قد ساعدت كثيراً على بلورة الإدارك الخارجي لشرعية الحق الفلسطيني في صراعه مع الاعتداء الصهيوني».
وتحدثت في الفيلم كذلك شخصيات أخرى مثل صبري جريس وعبد الله حوراني وآني كنفاني وطلال ناجي وإسماعيل شموط. تتداخل الحوارات مع الحقائق الموضوعية التي عانت منها لبنان وعانى منها الشعبان الفلسطيني واللبناني أثناء غزو الدولة العبرية للأراضي اللبنانية، دون أن يرفع أصدقاء الدولة العبرية إيديهم في المنظمة الدولية «الأمم المتحدة» احتجاجاً على عملية السطو والنهب التي حصلت في لبنان وعلى الوثائق المرئية والمسموعة والمدونة، بل أن شاشات قنواتهم التلفزيونية تمتلئ بمشاهد حقيقية وأخرى مزوَّرة أو ممثلة ومبالغ في أدائها عن الجريمة التاريخية للنازية ضد اليهود والمجتمع اليهودي التي أدينها بقوة وبشجاعة مثل ما أدين بذات القوة والشجاعة مجازر كفر قاسم وصبرا وشاتيلا.
من هذا المنطلق ينبغي أعادة بحث الذاكرة الإنسانية، فالأفلام الفلسطينية التي تتناول قضية الشعب الفلسطيني لم تعد عملية إنسانية تستفز العواطف لأطفال فلسطينيين يتنقلون في أروقة الأونروا أو أطفال يعيشون بعيدا عن وطنهم ويرسمون على الورق الطائرات الإسرائيلية وهي تلقي بنقاط من الحبر والألوان على مخيمات من الصفيح. أنها طائرات حقيقية من نوع الشبح والأف 16 والميراج المتطور تلقي بجحيمها علينا ونحن في لبنان نصورها ونعيشها جحيما حقيقيا يثير الرعب مهما بلغ مستوى الشجاعة الإنسانية.
حتى ننصف القضية الفلسطينية، وحتى نكشف الحقائق الموضوعية فنحن مطالبون ليس بإدانة المنهوب والمخفي من الوثائق بل أيضا بإدانة مؤسسات الإعلام في العالم والممثلة بالفضائيات ووسائل الإعلام ووكالات الأنباء من أجل أن تكون منصفة في بث الحقائق الموضوعية أمام أنظار الرأي العام العالمي والإنساني. وهذا هو المخفي والمنهوب من الحقائق الموضوعية في التاريخ الإنساني.