محمد عبد الرزاق القشعمي
للرواد من الرعيل الأول حق علينا أن نذكرهم ونشكرهم على ما قدموا، كل في مجاله المتخصص به، في حياتهم وبعد مماتهم؛ فقد خلدوا أنفسهم بما تركوه من أعمال إبداعية، أو بما غرسوه في أذهان الجيل الجديد من مفاهيم علمية وعملية.
ومن هؤلاء الرواد الأستاذ إبراهيم بن محمد الحجي، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الأحد الثامن من شهر ربيع الآخر 1432هـ، الموافق 12 مارس 2011م، بعد أن قضى السنوات الأخيرة من حياته رهين المحبسين، لا يكاد يخرج من منزله لفقده البصر بعد تقاعده، وتبع ذلك فقده الذاكرة (الزهايمر)، وانقطع عن التواصل مع الجميع على الرغم مما قام به من أعمال تربوية جليلة طوال خدمته التي بدأها مدرساً، واختتمها بتوليه وكالة وزارة المعارف للشؤون الثقافية حتى تقاعده عام 1412هـ.
أول مرة رأيته فيها كان في مدخل مبنى مؤسسة اليمامة الصحفية الجديد بحي الصحافة عند افتتاحه بداية عام 1414هـ، وكان جالساً على كرسي بمدخل المؤسسة منتظراً قدوم سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز - الملك فيما بعد - راعي الحفل، وذلك بعد تقاعده وفقده بصره.
اتصلت به بعد بضع سنوات، ودعوته لزيارة مكتبة الملك فهد الوطنية، والمشاركة في تسجيل برنامج (التاريخ الشفهي) للمملكة، فوافق على الفور وبدون تردد.. فاتفقت معه بعد معرفتي بموقع منزله على المجيء إليه صباحاً ومرافقته إلى المكتبة، وإعادته قبيل صلاة الظهر. وعلى مدى ثلاثة أسابيع كل أسبوع أجلس معه لمدة ثلاث ساعات. وقد سجلت له المحطات المهمة في حياته منذ ولادته بالمجمعة عام 1342هـ وطفولته البائسة، ويتمه المبكر، وعمله صبياً لدى أحد الصناع، ثم مع أحد البنائين بالطين، بعدها عمل فراشاً في أول مدرسة شبه نظامية تفتح بالمجمعة، وتسمى مدرسة أحد الصانع(1) (1279 - 1357هـ)، وكان يقدم الشاي للمدرسين، فطلب منه أحد المدرسين أن يأتي ليستمع لما يلقى على طلبة السنة الأولى، وعند الامتحان طلب منه أن يدخل مع الطلبة للاختبار، وهكذا استطاب له الدرس والتدريس فحفظ القرآن الكريم، وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة الرحمانية في مكة المكرمة، والتحق بعدها بالمعهد السعودي بمكة المكرمة، وتخرج فيه، وبعده التحق بكلية الشريعة واللغة العربية، وتخرج فيها سنة 1372هـ - كما ورد في (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة في مائة عام - المجلد الرابع شوال 1419هـ). وتقول الموسوعة أيضاً إنه عمل معلماً بمدرسة المجمعة عند افتتاحها سنة 1356هـ حتى سنة 1360هـ، وبمدرسة أنجال سمو الأمير عبدالله بن عبدالرحمن من عام 1360هـ إلى عام 1361هـ حيث خلفه في تدريس أبناء الأمير الأستاذ عبدالكريم الجهيمان بعد انتقاله من إدارة مدرسة الخرج.
يظهر من قراءة سيرته الموجزة في موسوعة التعليم أنه ذهب إلى مكة المكرمة عام 1361هـ ليأخذ الشهادة الابتدائية، ثم شهادة المعهد السعودي، فكليتي الشريعة واللغة عام 1372هـ حيث عمل بعد تخرجه قاضياً في محكمة الطائف في سنة تخرجه. عاد بعد ذلك إلى الرياض ليدُرِّس في أول مدرسة ثانوية تنشأ في الرياض عام 1374هـ، ثم كلف بالعمل معتمداً للتعليم في نجد ومديراً للتعليم سنة 1375هـ. عمل بعد ذلك مفتشاً إدارياً ومديراً للامتحانات، ثم مديراً عاماً للتعليم بوزارة المعارف فوكيلاً لها للشؤون الثقافية.
من خلال سرده لسيرته يذكر أنه درس في مدرسة دار التوحيد بالطائف، وأن أحد المدرسين من شرق آسيا من الصعب نطق اسمه بسهولة مما جعلهم يطلقون عليه اسم الدرس الذي يدرسه، وهو علم (الفرائض)، فكانوا يدعونه بالفرائضي، وبقي هذا الاسم ملتصقاً به حتى سجل به في الأحوال المدنية، وأصبحت ذريته بعد ذلك تدعى بالفرائضي. وقد تزوج الحجي إحدى بناته، وشقيقها أحد أبنائه هو اللواء عبدالحميد الفرائضي، الذي عمل قبل سنوات مديراً للمستشفى العسكري بالرياض.
كان الحجي يكتب في جريدة اليمامة أواخر السبعينيات الهجرية تحت عنوان (مجتمعنا يتكلم)، فقد أورد له الدكتور عبدالعزيز بن سلمة 31 مقالاً في كتابه (اليمامة وكتابها) تحت هذا العنوان، ومنها مقال يطالب فيه بتعليم البنات تحت عنوان (وبناتنا؟؟) في العدد رقم 219.
لقد دخل الأستاذ إبراهيم الحجي في معارك إدارية كثيرة، أذكر منها مشروعات: المدارس الجاهزة، والتغذية، واعتراضه على الشركة الإنجليزية المكلفة بإعداد المناهج والدروس باللغة الإنجليزية ومشروع التلفزيون التعليمي، والمتوسطات الحديثة، وكذا موضوع لجان التعاقد مع المدرسين عندما كان رئيساً لها في مختلف الدول العربية، فعندما يتقدم من يقع عليه الاختيار بعد اجتياز شروط القبول وينجح ولا يبقى سوى إنهاء إجراءات السفر يأتي من يكلف كمشرف أو متابع، وهو الداعية العراقي محمد محمود الصواف؛ ليشطب على أسماء الكثير، ويضع بدلاً منهم أسماء لا يعرفونها، ولم يتم اختيارها، فيعود الحجي للمملكة محتجاً فيعرف أن الصواف مكلفاً من جهات عليا، ومن هنا يبدأ كما يقال اختطاف التعليم.
وكذلك الموضوع الأهم هو المقاعد المدرسية الخشبية؛ إذ عُيِّن وقتها حوالي عام 1395هـ الدكتور غازي القصيبي وزيراً للصناعة والكهرباء فاستصدر أمراً من مجلس الوزراء بتشجيع الصناعة الوطنية، وعدم استيراد ما ينافسها من النوع نفسه.. فبقيت المعاملة تدور بين الإدارات، وكل يعترض على الأمر ويعدد السلبيات، فطالت المدة وتراكمت الأوراق. فدخل على الأمير خالد بن فهد بن خالد الوكيل المساعد والمدير العام للبعثات، فطلب منه حلاً للقضية، والنظر في إنهائها، فطلب منه إطلاق يده، فما كان من أستاذنا الحجي إلا أن شكَّل لجنة، وبعث أحد العمال بالمقعد والطاولة المصنعة محلياً لأعلى دور في الوزارة، وهو الدور الثالث؛ ليقذف بها فتقع على قوائمها بدون تخلخل، فاعتمدتها اللجنة، وبهذا انتصروا للصناعة المحلية، ومنعوا الاستيراد من الخارج.
عندما كان مديراً للتعليم في نجد مع انتقال الوزارة من مكة إلى الرياض في حوالي عام 1377هـ حرص على تفعيل النشاط المدرسي، وجعله يلبي حاجة سوق العمل، فقسم طلاب المدرسة المتوسطة والثانوية بالرياض إلى ما يشبه ورش العمل الصناعية، فمنهم من يزاول النجارة، وأخرى السباكة، وجماعة الأعمال الكهربائية، وآخرون الغزل والنسيج، وحتى أعمال الديكور تخصصت به مجموعة أخرى، وكان يدعو ويلح على تنويع اهتمامات الطلاب، ودفعهم لما يميلون إليه ويرغبون، وقد أعجب سمو الوزير الأمير فهد بن عبدالعزيز بالفكرة، ومن وقتها خصص مدارس باسم المدارس التجارية والصناعة وغيرها.