د.محمد الدبيسي
تشدني كثيراً الكتب التي تتناول أي شأن من شؤون البلدة الطاهرة، ولا سيما الأبحاث العلمية والدراسات المنهجية، التي تنطلق من فرضيات وأسئلة..، وتحتشد بمداخل تميط اللثام عن أدوار معرفية وفكرية شهدتها المدينة المنورة، في حقبة ما.. من حقب تاريخها.
وتأخذ مثل هذه الطروحات أهميتها؛ من كونها تحفر في بنية المعرفة، وأرضها الفكرية الخصيبة. وتنقِّب في المدونات، والموروثات العلمية؛ وتصل بينها وتقارب، وتتدبَّر وتتأمَّل، وتقدَّر- على بصيرة- وتبتدع أفكاراً ونتائج؛ من شأنها تجسير الفجوات، في تاريخ العلم ومسيرته في هذه المدينة، وكشف محتواه، وإبراز إسهام العلماء وأدوارهم في هذا المضمار، وابتداع مجالات للبحث العلمي في هذا المسار تؤتي ثماراً مباركة بتوفيق الله.
وتعدّ ولاية العثمانيين على المدينة المنورة، من الحقب التي توالت وتواترت مقولة الدارسين والمؤلفين من المؤرخين وغيرهم، إنها عصر الضعف والانحطاط. وما لبثت هذه المقولة إن راجت وشاعت، وتحوَّلت إلى مُسلَّمة، يتداولونها ويتناقلونها عن بعضهم، بلا رويَّة أو تحقيق، وبلا تقصٍ دقيق، أو تثبُّتٍ واع. ولئن كانت تصدق على بعض المناحي والمراحل الجزئية، خلال حكم تلك الدولة في المدينة وفي غيرها، فإنها لا تنطبق على عهد تلك الدولة في المدينة بالمطلق، ومن ثمَّ.. يعوزها البرهان والدليل، مثلما تعدم الشواهد التي تحقِّق دقتها، وتؤكد صوابها وصدقيتها.
ويجيء الكتاب الصادر حديثاً عن مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، بعنوان: (الحياة العلمية في المدينة المنورة 1143 - 1337هـ/ 1730 - 1919م) للباحثة تهاني جميل الحربي، شاهداً على تهافت تلك المقولة النمطية السيَّارة والسائدة؛ بما حوى الكتاب ووعى، من معلومات، وحقائق، وشواهد، وبما سبر من مراحل وأحوال. وبما رام من أهداف من شأنها إضاءة قرنين من الزمن تقريباً - في جانب (الحياة العلمية) - وفرز مكوناتهما التي كانت مقوماتٍ لحياة العلم والمعرفة في المدينة المنورة، في أنماطها كافة، بما احتواه من معلومات، واجتباه من رؤى ومحصِّلات. وما وقف عليه من مقامات وأحوال، ومضامين مراجع علمية ووثائق ومخطوطات، ومجتزءات وخلاصات نصية منها؛ وصل بينها وقارب، وألَّف ونَظم، وفاعَل، واستنتج.
ويعرض الكتاب لمحورية مؤسسة التعليم الأولى في المدينة المنورة في تلك الحقبة- وعلى مرِّ العصور- وهي: المسجد النبوي الشريف، وما حفل به من حلق العلم بجميع التخصصات، وأبرز العلماء الذين جلسوا للتعليم فيه، ونُظمه، والطريقة التي كانت عليها العملية التعليمية. وإلى ذلك أمكنة التعليم الأخرى كالكتاتيب والمدارس الوقفية، والزوايا والتكايا والأربطة. وبيوت العلماء وبساتينهم. وموارد الإنفاق على هذه النظم والمؤسسات.
واشتمل الكتاب كذلك على سياسة التعليم التي اعتمدها العثمانيون وولاتهم، وآليات وطرئق تنفيذها، وآثارها. وكذا أثر رحلات الحج وزيارة المقام المقدس في إقامة الصلات والروابط العلمية بين المدينة، وغيرها من حواضر العالم الإسلامي. وأبرز العلماء الذين جلسوا للتدريس في المدينة عند زيارتهم لها، ومن قرأ عليهم من طلبة العلم المدنيين، ومن أجازهم من العلماء المدنيين.
كما تناول مطلبين مهمين في هذا الشأن، وهما: الورَّاقون، والمكتبات، وأنشأت المؤلفة مباحث تفصيلية في هذين الجانبين، وأحصت المبرزين في العناية بهما، وسياق تكونهما وأثرهما في الحركة العلمية، ولا سيما فيما يتعلق بحرفة (الوراقة) وأدواتها ومراحلها ومنتجاتها العلمية، وأوائل العاملين فيها. وكذا المكتبات العامة والخاصة والوقفية، ومراحل إنشائها، ونُظمها ومحتوياتها.
وتضمن الكتاب أيضاً، ما قام به (المجاورون) الذين اختاروا المدينة وطناً بديلاً، من أدوار علمية، وما أدَّوه من جهود كان لها إسهام في الارتقاء بحركة العلم في المدينة المنورة، وتناول ذلك تفصيلاً في تتبع أدوارهم تلك، والمصنفات العلمية التي كتبوها. وكذا المصنفات العلمية لعلماء المدينة في مختلف العلوم، وأثرها في الحركة العلمية في العالم الإسلامي.
وقد أخذ صنيع المؤلفة في ذلك كله؛ نهجاً علمياً في ترتيب المراحل والموضوعات، وسوق الشواهد، وعرض المقولات واستقراؤها وتحليلها، والخروج بنتائج وخلاصات مركَّزة في بعض المواضع، ومستفيضة موسَّعة في مواضع أخرى؛ تدعم الفرضية التي انطلقت منها، وهي حيوية الحركة العلمية المدنية في الحقبة الزمنية المختارة، وفاعليتها، وتعدد مساراتها، وتنوع أنشطتها، وحفاوتها بقيمة العلم والمعرفة، واحتضانها للمخلصين في سبيلهما من الأقطار شتى.
واللافت في هذه الدراسة؛ تنوُّع مراجعها وأهميتها، وكثرتها وتعدد حقولها المعرفية، ولم تقف عند المطبوع أو المخطوط من المؤلفات المرجعية. بل نبشت الباحثة في الدوريات الصحفية القديمة، وعشرات الصكوك الوقفية، والإجازات، والوثائق العلمية والإدارية. وكذا مراعاتها الدقة في ضبط المصطلحات، وتعريفاتها، مما أغنى الكتاب، ودعَّم مضامينه، وحصَّن نتائجه ومحصلاته.
وإذ أعرض إلى هذا الكتاب وأشير إلى أهميته في حقله العلمي، وتقصيه موضوعه من جوانبه كافة، وما عُني به من تأصيل وتفصيل في جميع مباحثه؛ فإنني أيضاً أحفل به لما تجشمه في خوض مضمار صعب، ولما كان من أمره وأثره في تقويض تلك المسلَّمة الشائعة والساذجة، حول ضعف الحركة العلمية بالمطلق في العهد العماني، وما ترتَّب عليها من نتائج واتجاهات انساق إليها نفر من الباحثين، إن لم يكن جلُّهم. وقد فكَّكتها المؤلفة دون إشارة إليها، ودون إدعاء إبطالها. وهي تضيف بكتابها هذا.. إلى البحث العلمي عطاءً جاداً ومخلصاً، يفيد من الباحثين، ويستنير به القارئون المعنيون بهذا الجانب من جوانب العلم.