ارتباط الشعر بأفلام المخرج الروسي آندريه تاركوفسكي، رائد السينما الشاعرية، لا يقتصر فقط على الصور الشعرية والمجازية التي يقدمها في أفلامه ولكن لاحتواء كل فيلم من أفلامه على نص شعري، قصيدة، يتم إلقائها في مكانٍ ما داخل الفيلم بأشكال إبداعية متعددة.
تاركوفسكي ولِدَ داخل عائلة تهتم بالشعر والأدب، حتى أن مراسلاتهم العائلية بأبيات ذات إيقاع شعري ومقفاه، والده آرسيني تاركوفسكي شاعر روسي، ومترجم، نقل أدب أبو العلاء المعري وغيره من العربية إلى الروسية، وشعر المعري صعب جداً على الناطقين بالعربية، ومعقد، ومعروف باللزوميات، أي إلزام القصيدة بما لا يلزم، وهذا دليل على أن آرسيني كان متمكناً من اللغة العربية، ومتذوقاً لأصول الشعر والأدب العربي.
ومن ناحية أخرى، اختيار أبو العلاء المعري دليل على ذائقته الأدبية العميقة والمشبعة اطلاعاً ومعرفةً بأجناس وأنماط مختلفة، حيث قدم أبو العلاء المعري «رسالة الغفران» التي وصفها طه حسين بـ: «أول قصة خيالية عند العرب»، وتجاوز تأثيرها الأقطار العربية، حتى أصبحت مصدر إلهام الشاعر الإيطالي دانتي إليجييري في «الكوميديا الإلهية»، ولكن بصبغة مسيحية، وتعتبر من النوادر الإيطالية الشعبية المحفوظة، والدارجة بين الناس، كما يتداول العالم العربي أبيات المتنبي.
ومن المفارقات التي تبعث شعوراً بالسعادة عندما دخل الشاب آندريه تاركوفسكي الجامعة، اختار تخصص اللغة العربية والأدب الإسلامي في كلية الآداب، ودرسها لمدة عامٍ واحد. قبل أن يغير تخصصه إلى سينما وصناعة أفلام، في معهد موسكو للسينما.
وبعد التخرّج من كلية السينما حصل على موافقة من شركة موسفيلم لإنتاج فلمه الروائي الأول الطويل، من كتابته وإخراجه، مقتبساً من رواية، بعنوان طفولة إيفان - 1962، الذي حقق نجاحاً ساحقاً، وحصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان لأفضل مخرج واعد، ومن هنا بدأ النضج السينمائي المبكر، وبدأ المشوار القصير ذو الأثر العظيم.
بعد نجاح طفولة إيفان كان تاركوفسكي يبحث عن قصة تستطيع أن تحكي معاناة الفنان الداخلية وارتباطه بالحياة، وصمود الفنان وعدم انهياره رغم ما يدورحوله من أزمات، فقرر كتابة سيناريو عن حياة الرسام الروسي ذو السيرة المجهولة آندريه روبليوف وكل ما يعرف عنه هو رسمته لأيقونة «الثالوث الأقدس»، على اعتبار أن بقائها في الماضي واليوم ربطاً بين زمنين؛ زمن تاركوفسي الفنان المخرج و زمن روبليوف الرسام الزاهد، و تعتبر الأيقونة رمز مقدس عند الروس ولكن من فنان غير معروف.
عاش روبليوف في القرن الخامس عشر، واستناداً على الأحداث التاريخية التي وقعت في ذلك الزمن تم بناء إطار سردي للقصة، ومنها المرحلة التاريخية الصعبة التي واجهتها روسيا إبان غزو المغول والتتار.
استطاع تاركوفسكي بالسيناريو الذي كتبه أن ينقل روح الماضي بإبداع، وبعدها تم نشر السيناريو في إحدى الصحف المحلية، وحقق السيناريو شهره واهتمام واسع من كل طبقات المجتمع كالفئة المثقفة، والنخب السياسية، و حتى الهوامش. وبعد انتشار السيناريو تم الموافقة على تمويل الفيلم من وزارة الأفلام الروسية، مع تطلعات كبيرة.
يبدأ فيلم آندريه روبليوف – 1966 بلقطة افتتاحية رمزية فيها رجل يقرر الرحيل من مجتمعه، فيقوم بالركوب على منضاد كبير ويحلق بعيداً عن أهله، ومحيطه، وبالأسفل جميعهم يودعونه، ويتركهم وحيداً مسافراً بلا محطة وصول، ثم بعد الافتتاحية يسير الفيلم داخل عدة فصول تحكي قصة حياة 23 سنة من تلك الحقبة عبر تقديم محاكة درامية للأحداث التاريخية من جهة وحياة روبليوف من جهة أخرى، ويطرح الفيلم قصصاً عن النهوض بعد الدمار والبدء من جديد، ويقدم أمثلة على الاستخدام الخاطئ للسلطة السياسية، وعن والوحدة، والرضا، والأمل. الفيلم يعتبر ملحمة تاريخية ويقول عنه المخرج الياباني آكيرا كروساوا بأنه يشاهد آندريه روبليوف كل مرة قبل أن يصنع أي فيلم.
بعد الإنتهاء من الفيلم يبدأ صراع تاركوفسكي مع الحكومة الشيوعية والإتحاد السوفيتي، فيتم منعه، ومنع الفيلم دون سبب مقنع. والمنع من سمات الشيوعية الدكتاتورية. وفي حالة خاصة يتم عرضه عام 1969 في مهرجان كان، ويحقق أصداء عالية، مما سمح في عام 1973 لنزول الأسواق السينما العالمية. وبسبب منع الفيلم لمدة تزيد عن سبع سنوات، زادت شعبيته، وكانت هنالك ثلاث نسخ مختلفة يتم عرضها من الفيلم، الإختلاف بسيط في المدة الزمنية فقط.
يقول الفيلسوف سلافوي جيجك عن بطل فيلم ستالكر -1979: « في فيلم ستالكر شخصية الدليل عندما يصلي، لا يدعو إلى الأعلى وإلى السماء، إنما ينظر إلى الأرض، ويرغم رأسه بالأرض، ارتباطه العميق مع الأرض دليل على ارتباط الشخصية ميتافيزيقياً مع الطبيعة والحياة.» وكأنها إشارة إلا أن شخصية بطل الفيلم مسلمة، وهذا تفسير مقبول على اعتبار أن أهم رواد السينما الشاعرية آندري تاركوفسكي من المهتمين بالأدب والتاريخ الإسلامي.
ختم تاركوفسكي سيرته السينمائية بسبعة أفلام طويلة فقط، تبدأ أول لقطة من فيلمه الأول طفولة إيفان بمشهد شجرة، وآخر لقطة من آخر أفلامه التضحية -1986 انتهى بمشهد شجرة... مات منفياً في فرنسا، وقد نُقش على قبره: «الرجلُ الذي رأى ملاكاً».
- حسن الحجيلي