علي الدميني
1 ـ السردية/ وفتنة الشعر والشعرية
بالرغم من أن مصطلح «البويتيكا» منذ أرسطو وحتى أزمنة نقادنا العرب الأوائل قد تمحور حول مقاربات «صنعة الشعر» الموزون والمقفي، واحتكر «معنى الشعرية» في هذا السياق، إلا أن المصطلح قد تخطى ذلك التمركز التاريخي عبر حركة النقد الحديث في الغرب، في كتابات نقاد بارزين مثل «ياكبسون» و»تودورف» و»كوهين» و»بارت» وغيرهم، بحكم التطور التاريخي للإبداع والفنون الحديثة المتعددة، منتقلاً إلى مصطلح «الجمالية» الشامل لكل فنون القول والإبداع، ولتصبح الشعرية إما مرادفًا له، أو جزءًا منه حين تركز انشغالاتها على البناء الفني والدلالي للشعر.
وعلى ضوء هذا التوصيف يمكننا أن نرى أن نصوص محمد علوان «السردية» قد توافرت على مقومات «جمالية» تسريد النوع القصصي الحديث، وما يتمايز به السياق السردي من فنيات من حيث:
ـ زاوية اقتناص سردية الحكي، وبناء الحبكة، وتعدد حالات تسريد ذروة النص التي نلمسها في البدء أحيانًا، أو في السياق أو في النهاية، أو في النهايات المفتوحة لباب التأويل.
ـ التماسك والسيولة، والصدق وحرارة الانفعال الوجداني العميق عبر مهارة التكثيف والجمل القصيرة التي تشدنا بفتنة تخييلها إلى خاتمة النص.
ـ يفيد في بناء نصه من ممكنات أسلوبية متعددة، منها تيار الوعي، والبعد السيكلوجي، والبعد التأملي والحواري، والسحرية الواقعية، وتوظيف المفارقات اللغوية والحياتية والنفسية، لتخليق حالات السخرية الحارقة.
ـ يتماهى كل ذلك مع بعدٍ أسلوبي يشف عن فتنة الشعر في وجدان القاص، حيث يقوم بدمج نصوص شعرية في نصه، من الفصحى والمحكي، بل ويذهب إلى عملية «شعرنة» القصة من خلال كتابتها وفق إيقاع تفعيلي مطرد، يتفكّك أحيانًا إلى جمل سردية نثرية، ولكنه يعود إلى تفعيلاته ثانية في حالات مرتبطة بالبوح الذاتي للسارد. ونرى تلك التشكيلات في عديد من نصوصه من أمثلتها قصة «الطيور الزرقاء»، وقصة «الدخول.. الخروج».
ذلك أن القاص قد نهل من مخيال حضور الشاعر والشعر في الثقافة الشفوية والثقافة العارفة لا سيما وأنه مغرم بشعر المتنبي، وفي الذاكرة الجمعية، لتوظيف فاعليتهما النصية في سردياته. وقد تبدى ذلك فنيًا في الاتكاء على مكامن شعرية التكثيف والتصوير والتخييل ولعبة المجاز وحرارة الانفعال، في صياغة جمله السردية القصيرة، التي تلعب لعبة الخفاء والتجلي، فتضمر أكثر مما تقول، وتسيل كالنهر.
كما تجلت دلاليًا في حضور السارد كشاعر يرمز للتعبير عن الرؤية والتنبؤ، والعرافة، والحكمة والجنون، وعن استثارة مكامن الأسطورية والبدائية في مكونات الشعور الفردي والجمعي، لتحشيد كل تلك الممكنات وشفراتها لصياغة تشكيل سردي فني يعبر عن رؤية مبصرة تشير إلى طريق الآلام و»الجلجلة» التي سار عليها الأنبياء والمفكرون والمبدعون، مثلما تشير إلى أبواب الأمل التي يسير عليها الإنسان كل يوم.
ويمكننا أن نقف على فاعلية استحضاره للشعر ورمزية الشاعر في تكوين سردياته، عبر الوقفات التالية:
ـ إيقاع التفعيلة وحركية النص.
تتناوب السردية وحضور إيقاع الشعر في تشكيل متن النص، جماليًا ودلاليًا، في القصة الأولى بعنوان «الطيور الزرقاء» (في ص17 من مجموعته «الخبز والصمت») التي تطالعنا بشعرية العنوان ودلالاته المتشحة بالطيور والزرقة.. زرقة البحر وزرقة السماء، التي تشير منذ البدء إلى الروح التي أصبحت طائرًا يتخلّق في ذلك الفضاء.
القصة تنبني على تخييل حالة وجودية جوهرها رصد لحظة مشهدية ودلالية، تشير إلى صراع الحياة والموت.. الديمومة والفناء، من خلال اقتراب ابنة السارد من الفناء، بينما لا توجد امرأة في القرية القديمة تحمل بذرة التوالد. ولذلك يغدو عواء الكلب المستمر، الذي يُعد في الثقافة الشعبية علامة على موت شخص ما، رفيقًا لحالة طقس وجودية يؤكدها سؤال «زينة» التي تحتضر، عن زهورها التي زرعتها في الحقل، كدلالة على معنى التشبث بالحياة واستمراريتها!
هنا يصبح التعبير عن تعقيد هذه الحالة الجنائزية طقسًا يحضر فيه الشعر كحامل لملحمية الوجود والعدم، والموت والانبعاث، ليلعب دوره الفني في تكثيف ملامح الصراع، ورفع حالة الحزن والتوتر والمأساة إلى ذرى التعبير عنها من خلال توليد نقيضها وهو الأمل، لأن الحكاية في تسريدها هنا ليست تاريخًا أو تسجيلاً لحادثة، وإنما علامة ثقافية تشير إلى تلازم الحياة والموت والولادة، لكي تستمر ديمومة هذا الكون.
يفتتح السارد المشارك في تسريد الحكائية نصه بجُمَلٍ شعرية ذات إيقاع تفعيلي شديد الوضوح: «كان اسمها زينة / مليحة اليدين / والوجه والقدمين / لكنها حزينة»، وليزاوج بعد ذلك بين فاعلية السرد واستعارات التفعيلة بناءً وإيقاعًا، عبر النص الذي يصبح غناءً حزينًا ومرثية لابنته التي يراودها الموت عن نفسها في حالات النزع الأخير. فيما يختمه بلقطة صورة من البعيد تجمع بين الأب الحزين وموضوعة الوجود كلها، حين يقول: «ويصرخ العجوز صرخة طويلة/ جذورها في الأرض/ ويرفع العيون فوق فوق / يصيح..
فينبت السحاب/ وينزل المطر». ولعل قارئ النص سيرى التناقض الحدي بين الموت والمطر، ويتساءل: كيف ينبت السحاب والمطر في لحظة موت؟
ولكنني أرى أن حضور شعرنة النص الإيقاعي في سردية الحكي كفيلة بتأويل تعارضات الحالتين، لأنها تستدعي شعرية الطقس ودلالات أسطورية قصيدة السياب «أنشودة المطر»، التي يقول فيها: «كالحب، كالأطفال، كالموتى، هو المطر». وذلك ما يحملنا على الذهاب إلى البعد الميثيولوجي للثقافات القديمة، وخاصة الهندية، التي ترتكز أسطوريتها على ثنائيات الصراع والتعايش بين الأضداد، كالموت والولادة، والجدب والخصب، دون أن يفني أحدهما الطرف الآخر، تجاوبًا وتأويلاً لاستمرارية الحياة!
وفي قصة «الخروج.. الدخول» في مجموعة «دامسة»، نشهد تلك الحالة الشعرية المتوهجة ببعدها الوجداني المتدفق بما استطاع القاص معه أن يحيل الحكي إلى فيض شعري أقوى من إكراهات السردية وضروراتها النثرية، ليمتلك حرية التنقل بين الذات وخارجها، بين الأصدقاء وبين البيوت والشوارع والأفكار التي كانت تتناهبه عن وجع الحاضر وأحلام المستقبل، لكي يتحاور حولها مع الأصدقاء في لقائهم الحميم.
«و دخلت الدار.. والرفقة أعداد تتوالى / تدخل هذا القلب، تدخل.. تخرج/ آهٍ من قلبي المأوى... آهٍ من يأويني».
و لا يكتفي بهذا البوح الداخلي للتعبير عن انفعالات السارد، ولكنه يمضي لتوصيف جلسة الرفقاء بتفاصيلها، محافظًا على وحدة الإيقاع الفني والموسيقي في النص (مع بعض الهنات الإيقاعية): «الأول يشرب شايًا، والثاني يشربها صافية منحازة، والثالث يشرب شايًا بالثلج الأبيض».
ثم يعود من التوصيف المشهدي إلى البوح الداخلي: «أن الرفقة لا تكتمل بهم أجواء القصد.. أجواء العمر / لا تكتمل بهم إن كان رفيقٌ منهم يحمل فوق الوجه قناعًا..!!»
وتتصعّد موتيفات السردية إلى إحدى ذرى الحبكة، حين تنهدم تلك الحالة في آخرها، حيث يقول عن الصامت منهم: «لكن الثاني.. والثاني يشربها صافية منحازة.. كان قليل كلامٍ في بدء الشرب.. قل واتته الجرأة في وسط الشرب.. قل في آخر سطرٍ من ورق السهرة، كان قبيحًا. أرأيت العُريْ؟!!»
هنا تلعب المفارقة في التعبير الشعري دورها في تكثيف الانفعال بحالة الفرق والافتراق بين الرفقة والصامت، والعنف الذي خرج من الصمت!
ويعود السارد إلى ذاته خارجًا من لقاء الأصدقاء، بحزن ثقيل، لكن الأمل المنغرس في أعماق ضميره الثقافي ما زال متيقنًا من أن الغد أجمل من هذه اللحظة.
وحين يصل إلى بيته وهو يراجع ذاته، يجد ابنته الصغيرة ـ رمز حلم الأجيال القادمةـ وهي منهمكة في نثر قطرات ماءٍ على قبر طائر دفنته في فناء البيت حين سقط من الفضاء، آملة بأنها سترى شجرة تكبر في هذا المكان وتثمر عصافير ملونة وضاحكة.
ولعل لعبة الخروج والدخول في القصة، بما تعبر عنه من امتزاج حالات الأمل والألم، والتوافق والتباين، ستكتمل حين تشير إلى لعبةٍ أخرى نجدها في عملية تداخل الشعر بإيقاعته مع لعبة السرد بممكناته، لإبداع حالة فنية لا تتوافر إلا لمن يمتلك مهارة التأليف بين اختلافاتهما بهذا الشكل المتميز!