د. إبراهيم بن محمد الشتوي
هنا تصبح الفئة التي دخلت الجامعة منذ البدء نخبة مختارة من أصحاب المعدلات العالية، وتمر بمراحل صقل، وغربلة، على مدار سنوات الجامعة، فيتخرج منها صفوة الصفوة، هي النخبة الحقيقية العاملة في الدولة، وهي المعتمد عليها في تولي زمام الأمور القيادية بدرجاتها المختلفة، وعندها لا يصبح «للشعبية»، و»الجماهير» دور كبير في الإدارة، لأن النخبة تعلم مصلحتها، وتعلم الطريقة المثلى لتحقيق هذه المصلحة، وبناء على هذا فإن دور الجماهير، و»الشعبية» مقتصر على دعم النخبة، وتأييدها، والوقوف معها، وتسويق مشاريعها، والقضاء على العوائق التي تقابلها، وهو دور المساعد.
وهذه الرؤية رؤية تنموية جميلة جداً، لكنها رؤية حالمة، رومانسية تتفق مع طبيعة غازي الشاعر، تشبه مدينة أفلاطون الفاضلة، حيث لا مكان إلا للكُمَّل، لكنها ليست واقعية، ولا يمكن أن تتحقق، وهذا لعدة أسباب.
إن هذه المدينة الفاضلة التي يريد أن يجعلها أستاذنا الكبير المصنع الأول للنخبة (الجامعة)، ليست عصية على أيدي الفاسدين، فإذا كانت التجربة التي مر بها في الجامعة قد أعطته انطباعا جميلا عنها، فإن هناك حالات أخرى يقوم فيها المسئولون بالجامعة بالاعتماد على عناصر تكونت بطريقة مريبة، فتجد فيهم من تورط بسرقة علمية، أو من تورط بالغش، والكذب، أو من خالف لوائح الجامعة وأعرافها في دراسته، وتكونه، فيجعلهم طريقا لتقويم، وتسيير العناصر الأخرى التي تنطبق عليها المعايير «النخبوية» لأستاذنا الكبير، وهنا تصبح العناصر المفارقة للنخبوية، هي المقياس الذي من خلاله تدار النخبة، وعندها تصبح مؤسسة إعداد النخبة -في الحقيقة- مؤسسة لإفسادهم، وصياغتهم صياغة لا تتفق مع الصياغة الصحيحة.
ثم إن الجامعة لا تتكون من الأساتذة، والطلاب الذين سيكونون نتاج هذه المعايير النخبوية، وإنما أيضاً فيها قدر كبير من الموظفين ذوي المراتب المختلفة، وهم -حتماً- خارج هذا الإطار، وقد يملكون من التأثير في بناء القرار في الجامعة ما لا يملكه الأساتذة في بعض الأحيان، والمشكلة في هؤلاء الموظفين أنهم من سياق اجتماعي، إداري، مختلف عن سياق الطلاب والأساتذة، إنهم من منظومة قيمية -أحياناً- بعيدة عن الاعتبارات الأكاديمية التي ينشغل بها الأساتذة والطلاب.
إضافة إلى هذا فإن الاعتماد على المعدلات التي خصصت بطريقة معينة لقياس قدرات محددة لدى الطلاب، واعتبارها هي الموضحة الحقيقية لمستوى الطلاب وقدراتهم، هو اعتماد غير صحيح، فقد ثبت بالتجربة أن التميز في الناس، الذي يعتمد عليه ببناء النخبة، ليس مقصوراً على هذه المعدلات، وأن كثيراً من أصحاب المواهب البارزة ليسوا من أصحاب المعدلات العالية، فهي تعطي مؤشراً على قدرة الطالب على التحصيل، والمعرفة، ولكنها لا تقطع بعدم صلاحية الباقين.
وعلى هذا، فإن منع من يرغب الالتحاق بالجامعة من أن يحقق رغبته، هو نوع من حرمان المجتمع من عدد كبير من الإمكانيات المحتملة، كما أنه منع أيضاً له من حق متاح، وهو «التعلم»، ما دامت الإمكانيات المادية في القبول ممكنة.
ثم إن ربط التعليم بالتوظيف، بالرغم من أهميته في القضاء على البطالة، وفي تهيئة البنية التحتية للتنمية كما يرى الراحل، هو تركيز على الجانب النفعي التطبيقي للعلم، وعلى هذا ينبغي أن نغلق كثيراً من أقسام العلوم الإنسانية التي لا تتصل بهذا الجانب التطبيقي.
كما أن حصر النخبة بمن تخرج من الجامعة أمر يخالف كثيراً من الحالات، حيث نجد أصحاب المواهب، والمتميزين، ممن لم يكن لهم حظ الدراسة في الجامعة، ومع ذلك يكونون شعراء، ونقاداً، وكتاباً، وقياديين ناجحين، ساهموا في خدمة الثقافة، والمجتمع.
وهذا يدفعني للحديث عن مفهوم «النخبة»، فالكاتب لم يتحدث على وجه الحقيقة عنها، لكن حديثه عن طريقة تجهيز الكوادر يكشف أنه يحددها فيمن تخرج في الجامعة، وتمكن من أن يتولى موقعاً كبيراً في المؤسسة الرسمية، ولا شك أن هؤلاء جزء من النخبة، ولكننا لا نستطيع -كما مر من قبل- أن نحصرها بهؤلاء، فالنخبة هم الذين يتوافرون على مستوى من التعليم الجيد سواء كان عن طريق المؤسسات التعليمية النظامية، أو الاجتهاد الشخصي، مع قدر جيد من الوعي بالقضايا والظروف المحيطة بهم، وهذا يفتح المجال للمشاركة أو الاستفادة من جميع المكونات الوطنية على اختلاف مكوناتها العلمية والفكرية، والمهارية.