رواية «لاعب الشطرنج»، رواية قصيرة صادرة عن دار مسكلياني بتونس 2017، للروائي النمساوي ستيفان زفايغ، بترجمة سحر ستالة بامتداد ثلاثٍ وسبعين صفحة.
تدور أحداث الرواية على ظهر باخرة تبحر بأوجاعها من نيويورك إلى بيونس آيرس. متخذة من رقعة الشطرنج عالمًا لها.
ويشغل بطلي الرواية والشطرنج معًا كامل القصة، الأول البطل العالمي للشطرنج «سيركو زينتوفيك» ، والثاني المحامي النمساوي السيد ب، والذي يجمعهم السفر على متن هذه الباخرة.
البطل العالمي سيركو تعلم الشطرنج بعد وفاة والده غرقًا في البحر في منزل قس عهد بتربيته، وبعدما عرف بقصور الفهم عن أقرانه وصعوبة التعلم، وفي تلك المدة لم يكن أمامه إلا متابعة القس وصديقه الضابط وهم يلعبون الشطرنج كل مساء. لتترتب الأحداث ويسوقه القدر للشهرة وذلك عندما طلبت أسرة من القس مباركته وحضوره الفوري لاحتضار مسنتهم، ليصبح هو في مقابلة الضابط على طاولة الشطرنج ويهزمه. ليبدأ بعدها في التدرب وامتهان اللعبة وصولاً للعالمية.
بينما ينحدر البطل الثاني والملقب بالسيد ب من أسرة نمساوية عريقة يعمل كمحامي ومستودع أسرارهم وصندوقهم البريدي الأمراء والوجهاء في فيينا. أعتقله الألمان إبان احتلال النمسا، ليجد نفسه معتقل في غرفة فندقيه يتنافس عليه الفراغ والوحدة واللا شيء، حتى تمكن من سرقة كتاب لتعلم الشطرنج فكان رفيقه الذي انتزعه من العدم وحرك ذهنه وجعل الموت والاقتتال هو اللعبة التي يتلهى بها.
وعلى متن هذه الباخرة يواجه بطل العالم المتمرس المحامي العريق الذي لم يلعب الشطرنج إلا كحركة ذهنية افتراضية ومع نفسه.
هذه أهم مفاصل القصة التي كتبها ستيفان زفايغ كوصية انتحار فبعدها بخمسة أسابيع ودعنا ليتركنا على ظهر هذه الباخرة العائمة في الفراغ، فمنذ الافتتاحية للرواية يقابلنا بالسفر والإبحار ليؤكد لنا أن هذه «الباخرة الكبيرة» ليست سوى الأرض التي نمتطيها لتمتطينا لاحقًا فمثلما منحتنا جزءًا منها لنتشكل ونتكون ونبدو بهذا المظهر تعود فيما بعد طالبةً حقها في أجسادنا من طينٍ وبله.
وبتفحص سريع للرواية نجد أننا أمام مفردات كانت هي محفزات ومنطلقات هذه القصة الوصية وأولها «الحاجة والمعاناة» وهنا يتقاسم البطلان فاكهة العوز والحرمان فـ «سيركو» عاش في اليتم ضيفًا في غرفة قس أقل من أقرانه فهمًا ومقدرةً على إنشاء السطر وبنيانه، أما السيد ب فبعدما أودع سجنه الفاخر كان في أشد الحاجة للحديث، متعطشًا ليبتل ريقه بالكلام، لرؤية البشر، لسماع الأصوات، لتبديل المناظر، لملأ أذنه، وإشباع عينه.
«الفراغ»
وقد نال حظه من بطلي الرواية فسيركو كانت مساءاته فارغة ولا مجال لسد هذا الفراغ وتزجية الوقت إلا متابعة الضابط والقس وهما يلعبان الشطرنج، وأيضًا السيد ب الذي أُسلِم للفراغ وعذب به فلم يجد شيئًا يتلهى به أو يُعمل عقله فيه غير الفراغ إلى أن مكنه حظه من سرقة كتاب عن الشطرنج ليكون النزيل الثاني معه في غرفته الفندقي ومنفذه إلى الضوء.
«الانتظار»
نهش البطلين وزعزع علاقتهم بالحياة، وزج بهم في مواجهة الحياة من خلال لعبة الشطرنج وحيلها، منتظرين من يحركهم رغبةً في قتل الآخر المتحصن بآخرين أشباههم فاقدي الإرادة. فالانتظار هو من أوقعهم في فخ لعبة الحياة.
«رقعة الشطرنج»
هذه الرقعة التي لا تدوم على لون فلا تكاد تشبعك بياضًا حتى تطليك سواداً، إنها الحياة، ونحن قِطع الشطرنج (ملك - وزير - حصان - فيل - قلعة - حصان - جندي) فوزنا هو الموت، هو الدم الذي يراق من نحور خصومنا. في هذه الرقعة الحياة والرِفعة للقاتل.
«لاعب الشطرنج»
الحقيقة التي لا تجهلونها ولا أجهلها أن الشطرنج لا تلعب منفردًا - حتى وإن قادك الفراغ إلى مواجهة الذات ومقابلتها ومحاولة الانتصار عليها من جهة والانتصار لها من جهة، كأن تقتل نفسك من أجلها وانتقامًا منها في ذات الوقت - لكن ستيفان اختار لاعبًا واحدًا عوضًا عن لاعبين ليشير إلى أن هذا العالم ليس له سوى صانع واحد ولاعب واحد بيده الهزائم كلها والانتصارات والأسرار.
والبقية جهله لا يتصلون بالحقائق مهمتهم انتظار النتيجة والمشاهدة والتصفيق والدخول للمناطق التي يحددها هو بيضاء كانت أم سوداء، يلونهم ويختار مصيرهم.
ومما يؤكّد الفهم الذي ذهبنا إليه وهو «أن مصائر الكثير بيد القليل» عدد شخوص الرواية القليل والتي لا تكاد تجد رواية متمثلة في بطلين وراوي.
ومن هذه المنطلقات أو بالأصح التبريرات التي ارتضاها ستيفان تشكلت نهايته، ومنحته قناعة الانتحار، فحاجته للوطن ومعاناته مع المنفى وفراغه الداخلي وانتظاره للسلم العالمي، تكاتفت ضده، فاختار النهاية مع قناعته كما ذكر أن هذه الحياة ليست لعبة سيئة لينهيا بالانتحار.
يقول ستيفان زفايغ مغلقًا وصيته هذه التي أرسلها لصديقه قبل رحيله ب فترة وجيزة: «يا للخسارة ... لم يكن اللعب سيئًا لكي ينتهي هذه النهاية».
- فيصل الشهري