قبلَ أنْ نستعرِضَ أثرَ الرومانتيكية في ولادةِ الأدب المقارن سنتعرَّفُ على ماهيتها وآليَّة اشتغالها؟
ليسَ منَ السهل تعريفِ الرومانتيكية كما يرى أحد الباحثين؛ لأنَّها ليست فلسفةٌ مُنظَّمة، وإنَّما هيَ إيمان بدهي يُعبَّرُ عنهُ مِنْ خلال فنِّ الأدب، وعندما نُبيِّنُ صعوبةَ توضيح ماهية الرومانتيكية لا لأنَّنا نريدُ وضعَ عقبات تُحيلُ بيننا وبينَ فهمَها، بلْ لنُمهِّدَ للقارئ معرفةَ الإشكال الذي يحصلُ عندما ندرسُ هذا المذهب الأدبي. (1)
إنَّ الرومانتيكية تنطلِقُ مِنْ إيمانِها بالإبتداعِ، وهيَ بذلك تخرجُ عن الكلاسيكية التي تُكرِّسُ للمحاكاة في الفن، وهكذا نستطيعُ أنْ نربِطَ بين الرومانتيكية والإبداع ذلِكَ في أبسطِ تعريفاتها التي نوضِّحُها.
لا شكَّ في أنَّ مِنْ أهم الذين عالجوا أثر الرومانتيكية في نشأة الأدب المقارن هو محمد غنيمي هلال، بل لهُ دور الريادة في ذلِكَ ويرى الدكتور أحمد درويش أنَّ كتاب الأدب المقارن لمحمد غنيمي هلال هو تتويجٌ لمرحلةٍ طويلةٍ مِنَ الإرهاصات والمقدِّمات والبحث عنِ المصطلح واللجوء إلى الترجماتِ، ويرى أيضًا أنَّ هذهِ المحاولات كُلُّها كانت بدورِها تقنينًا لظاهرة قديمة. (2)
قامت الرومانتيكية في أواخرِ القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، ويرى محمد غنيمي هلال أنَّها قامت على أنقاضِ الكلاسيكية في إنجلترا أولاً، وبعدَ ذلك في ألمانيا وفرنسا، وأسبانيا وإيطاليا.
إنَّ فلسفة الرومانتيكية قائمة في أساسها على التيار العاطفي، وهيَ بذلك تخالفُ الفلسفة العقلية المُنْطلَق الأساسي للمذهب الكلاسيكي، ويذكرُ غنيمي هلال أنَّ جمهور الرومانتيكيين أنَّهم أبناء الطبقة الوسطى، والطبقة البرجوازية، بعد أنْ كان جمهور الكلاسيكيين يتمثَّلُ في الطبقةِ الأرسطقراطية التي كان يعتمِدُ عليها الكُتَّاب الكلاسيكيون. (3)
بعد أنْ وضَّحَ غنيمي هلال العلاقة بين نهضة القومية في أوربا وبروز الرومانتيكية، بيَّنَ أهميَّة الفيلسوف كانط في تعزيزِ وجود الرومانتيكية، وهو بذلك يضعُ القارئ أمام الخلفية الفلسفية لهذا المذهب الأدبي. (4)
إنَّ الرومانتيكية قد أثَّرَتْ في جميعِ المذاهب التي جاءت بعدها هذا بحسبِ تعبيرِ محمد غنيمي هلال، وهناك علاقةٌ بين مبادئ الرومانتيكية ونشأة الأدب المقارن، ومِنْ أهم وأوَّلُ مبادئهم هو التركيز على العاطفة، وعلى هذا الأساس هم يعتقدون أنَّ القلب هو مصدر الإلهام، وهكذا ينطلقُ المُبدِع عندهم مِن الشعور في إنتاجِ أدبه.
إنَّ البحث عنْ مفهومِ للجمال عند الرومانتيكيين الذي هو إنعكاس للحقيقة عند الكلاسيكيين، بالإضافة إلى اختلافِ غايةِ الأدب بين المذهبين، وهذا قد ذهب بالرومانتيكيين إلى التحرُّرِ منَ الأفكار والقيمِ السائدة والمقنَّنة التي قامَ بتكريسها الكلاسيكيون.
إنَّ التركيز على العبقرية والحرية الفنية عند الكُتَّاب الرومانتيكيين ساهمَ بشكلٍ أساسي في ظهورِ علمِ الأدب، وخصوصًا في فرنسا ومن أهمِّ تلك النماذج مدام داسكال التي كانت من الرومانتيكيين المساهمين في نشأةِ الدراسة الأدبية المقارنة. (5)
إنَّ ظهور الأدب المقارن قد تمَّ في أجواء أدبية تنشدُ الجِدَّة وتنطلق من عبقريَّة الفرد وانفتاحه على آدابٍ أخرى، وهذا لم يكن لولا ظهور المذهب الرومانتيكي الذي صنع نقلة فنية كبرى لم يشهدْها تاريخ الأدب من قبل.
... ... ...
المراجع:
(1)بلاطة عيسى يوسف، الرومنطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث، ط1بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2014 م. 7.
(2)درويش أحمد،نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي، د.طالقاهرة،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2002 م. 36.
(3) هلال محمد غنيمى،الأدب المقارن،ط3، القاهرة،دار نهضة مصر للطبع والنشر د.ت 364
(4) هلال محمد غنيمي، الأدب المقارن. مرجع سابق، 366.
(5) هلال محمد غنيمي، الأدب المقارن، مرجع ساب، 49.
- راشد القثامي