(أتْبَرا) كما ينطقها أهلها المدينة الواقعة في ملتقى نهر عطبرة بالنيل؛ تعرف لدى أهلها بـ (بلد الحديد والنار) نظرا لوجود رئاسة سكك حديد السودان وأهم وأكبر منشآتها الصناعية والإدارية، وارتباطها بحقبة تاريخية نضالية ضد الاستعمار، وكانت مهداً للحركة النقابية في السودان. حوّرت الروائية الاسم الذي عُرفت به المدينة بما يتناسب مع موضوع روايتها ليكون عنوانا لها.
الرواية تجربة جديدة للطبية السودانية نهلة عبدالله إدريس صدرت عن دار الريم في أم درمان في طبعتها الأولى سنة 2017 تتألف من مائة وإحدى وسبعين صفحة، تعرض فيها لبعض ما تعانيه المرأة السودانية من مجتمع ذكوري لا سيما في المناطق المحافظة مثل (عطبرة)..
تتناول الرواية حكاية (ليلى) التي عاشت بين أبٍ ذي تأهيل وطموح عاليين، وبين أمٍّ أمية غير ذات طموح، وقفت ضد رغبة زوجها في الانتقال بأسرته إلى بورتسودان بحثا عن استثمارات تتناسب مع مؤهلاته وطموحاته، فتركها وانتقل وحيدا على الرغم من الحب الذي ظل يحوطهما ردحا من الزمن.
عشق (حسام) ابن خالته ليلى إلا أنها كانت تنظر إليه بمثابة أخ، وأحبت (سليما) اليماني صديقَ أخيها. هذا اليمني عاش مأساة في طفولته سببها الحب في بلد محافظ، فلم يستطيعا إتمام زواجهما إلا بعد هربهما إلى الخرطوم بسبب رفض الأهل لزوج لا يعرفون أصله!
توفي والد سليم، فاستولى أعمامه على أملاكه بأوراق مزورة، وعادت به أمه وهو فتى في الخامسة عشرة من عمره إلى بلده ومجتمعه اللذيْن لا يعرف عنهما شيئا، ناقما على المجتمع الذي أجبره على الهجرة قبل أن يُخلق، وعلى من سهّل لأعمامه سرقة ميراثه، فبدأ العمل ناقما على هذا المجتمع، فأول صفقة حاول تنفيذها في شركته التي أنشأها مع شريكه كانت عبارة عن بيع أجهزة غير مطابقة للمواصفات لمستثمر ينفذ مستشفى حكوميا للأطفال مما حدا بليلى أن تخلع دبلته وتعيدها إليه رغم الحب الذي وصل بهما إلى أبعد مدى.
وأصيبت ليلى بصدمة أخرى. فبعد أن أنهت تعليمها الجامعي وبدأت مواهبها الأدبية تتفتح؛ طلبت من أخيها (عمر) السماح لها بالانتقال للعمل في الخرطوم لكنه، رفض رفضا قاطعا مهددا إياها بقطع علاقته بها إن هي سافرت، ومع ذلك سافرت لتعمل في إحدى الصحف محررة أدبية، وتسكن مع صديقتها (نجلاء) المذيعة المعروفة في إحدى المحطات الإذاعية.
وإلى جانب اهتمامها بالتحرير الأدبي طلب منها رئيس التحرير إجراء تحقيقات صحفية في الموضوعات الاجتماعية، وحصدت تحقيقاتها متابعة جيدة وتفاعلا مع القراء إلى أن زارتها في الصحيفة امرأة تشتكي من معاناة زوجها مع الغسيل الكلوي بعد قصور الأجهزة الموجودة في المستشفيات. تذكرت الصفقة المشبوهة التي كان يخطط لها سليم التي كانت سببا في فسخ خطوبتهما، وأخذت على عاتقها مهمة مطاردة الفاسدين وتعريتهم، حتى طلب منها رئيس التحرير التوقف عن نشر أية مادة تتعلق بهذا الموضوع.
لم تنس ليلى حبيبها، فقد كانت المصادفات تتوالى لتُذكِّرها به. كانت آخر هذه المصادفات رغبته في نشر إعلانات لشركته في الصحيفة التي تعمل بها. وكان زميلها (طارق) يزوره لإتمام صفقة الإعلان، وعاد بخبر نقله إلى المستشفى بواسطة سيارة الإسعاف. وما إن علمت ليلى من زميلها بالخبر حتى توجهت من فورها للمستشفى الذي يرقد فيه بسبب فشل كلوي تفاقم من جراء أجهزة الغسيل المعطوبة. اطمأنت عليه وتحسنت حالته وعلمت منه أن غضبتها عليه آنذاك أيقظت ضميره من سباته ولم ينفذ الصفقة المشبوهة، بل وأنهى عقده مع شريكه.
سلَّم رئيس التحرير ليلى بيانا من زارة الصحة ينفي ما ورد في تحقيقاتها الصحفية عن قضية أجهزة المستشفيات، وطلب منها بحزم التوقف عن الكتابة في هذا الموضوع، وفي الوقت نفسه تلقت اتصالا من أم سليم تخبرها أن سليما قد نقل للمستشفى ثانية، فأعادت ليلى بيان وزارة الصحة لرئيس التحرير ومعه خطاب استقالتها.
لحقت ليلى بحبيبها، وقررت أن تعقد قرانها عليه حتى تتمكن من السفر به للهند لزراعة كلية له. عُقد القران في حضور عائلي محدود وركبا الطائرة للهند، وهناك اكتشف السر الذي خبأته عنه وهو أنها هي من سيتبرع له بالكلية. حاول منعها من ذلك وشراء كلية من المستشفى أو من متبرع مهما كلف الثمن إلا أنها أصرت على أن تكون هي المتبرعة. استسلمت لمشرط الجراح لكن الموت كان أسبق لانتزاع روح سليم قبل أن ينتزع الجراح كلية ليلى!
تطرقت الرواية لموضوعات في غاية الأهمية. أولى هذه القضايا العنصرية القبلية والخوف من الأجنبي، وعدم الوثوق به لا لشيء إلا لأنه غير معروف الأصل. تقول المؤلفة على لسان سليم اليمني: «أمقت أولئك الذين يسألون عن القبيلة ليطلقوا عليك حكمهم المبدئي إذا كنت كريما أو بخيلا أو حاسدا أو غير متدين».
كما تناولت الرواية نظرة المجتمع المزدوجة لجنس أفراده، ففي حين يُحكم قبضته على المرأة فلا يسمح لها بالسفر من غير أسرتها، ولا يأذن لها بالدراسة والعمل إلا بموافقة أهلها ويحتقر المرأة؛ حتى المتعلمة والمشتغلة بالأدب خاصة، يمنح الرجل كامل الحرية في الهجرة من البلد وترك أسرته ولا يحاسبه حتى على الأفعال المشينة التي يقترفها. تنقل المؤلفة رد عمر أخي ليلى عندما أرادت أن تقنعه بالسماح لها بالسفر للعمل في مجال الصحافة الأدبية مقارنا بينها وبين عمل الطبية: «أجابني بأنها طبيبة تنقذ حياة الآخرين، ولكن لن يموت أحد إن توقفتُ أنا عن الكتابة».
وتناولت الرواية قضية الفساد وتسلط الفاسدين حتى على المسؤولين والصحافة لدرجة تمرير صفقات لتجهيز المستشفيات الحكومية بالمعدات الطبية غير الصالحة، وتصف هذا النوع من الفساد بأنه خيانة للوطن.
كما أشارت المؤلفة في أكثر من موضع إلى أهمية القلم وأمانة الكلمة: «ظالم ذاك المجتمع الذي يرى أن الكلمة آخر ما نحتاج إليه لكي نحيا. العيش في نظرهم لقمة تُشبع وقطعة قماش تستر وحبة مسكن تهدئ أوجاعهم».
كما نلحظ من خلال مجريات أحداث الرواية التضحية بالحب أكثر من مرة، فهي تقول على لسان ليلى: «إن الحب وحده ليس بكاف لنشعر بالسعادة لا بد من دفع فواتير أخرى نشتري بها رضا الحب. الحب لن يرضى عنك إن لم تضحِّ».
هذه القضايا والأهداف الجليلة أوصلتها إلينا المؤلفة بطرق متعددة غير مباشرة، فمرة عن طريق حوار مع النفس لأحد أبطال الرواية، ومرة على شكل خاطرة في برنامج (همسة حب) الذي تقدمه صديقتها (نجلاء) كل صباح، وحينا عن طريق حوار صحفي. تخلل الرواية استشهادات موفقة للعديد من الشعراء والناثرين منهم: روضة الحاج وأحلام مستغانمي ومريد البرغوثي ونزار قباني، وكذلك بعض الأغنيات والأشعار باللهجة المحلية.
وخلاصة القول إن الرواية عمل فني متقن كتب بلغة فصيحة وأسلوب سلس، وجاءت الحوارات باللهجة العامية لتكون أكثر قربا من الواقع.. الرواية شائقة منذ بدايتها ولا ينتهي التشويق حتى صفحتها الأخيرة.
- سعد عبدالله الغريبي