لم يعد إرباك الأذهان كافياً للسيطرة على القطيع-كما يصف تشومسكي الشعب الأمريكي لأن اللعبة تكاد تكون مكشوفة، فادعاء الالتزام بالديمقراطية وحقوق الانسان ومحاربة التلوث والحرص على حقوق المواطن الأمريكي المعيشية والصحية والصناعية والتكنولوجية، كلها أصبحت مفضوحة وغير قابلة للتمرير! ولن أتطرق هنا الى المعنى الحقيقي للمصطلحات التي تستخدمها الإدارة الأميركية والأنظمة الرأسمالية وتوابعها – تماماً – كما وجبات الهمبرجر المغشوشة لتسميم الرأي العام المحلي والعالمي وإرباكه، إنما يحيرني السؤال التالي: إذا كانت الولايات المتحدة وتوابعها لا يمكنها أن تعيش إلا بأكاذيب، فكيف استطاعت خداع الرأي العام منذ نشوئها حتى الآن؟
صحيح أنه يوجد قطعان من (النُخَبْ) في جميع أنحاء المعمورة يطبّلون ويزمّرون وينتشون بالإشادة للرقي الأمريكي تحت التأثير الساحر للبترودولار الأخضر، ويسيطر الرأسمال أيضا على 95% تقريباً من الإعلام (النزيه) في العالم، إلا أن الزمن الذي احتاجه الرأي العام ليكتشف الألاعيب طويل جداً فما السبب؟ كما أن القوى التي كرست جهودها لإظهار الحقيقة بالتضحيات بالمال والبنين والنفس المطمئنة، كان تأثيرهم محدوداً ولا تتناسب تضحياتهم مع الفضيحة المضمرة! هل العلة تكمن في الذهن الإنساني الذي قطع هذا الشوط الجبّار من تطور العلوم والتكنلوجيا والأدب والفن ورقي الإنسان بكل أبعاده وحتى علم الخداع الذهني ذاته؟ أم أنّ الأمر يتعلق بقطعان البترودولار؟ أم أن هناك شيئا آخر غير معلن يكمن وراء كل ذلك؟
وراء كل نهج يكمن مبدأ! .. والمبدأ ليس عرفاً اجتماعياً أو أخلاقياً أو دينياً وحسب، إنما هو الأساس الفلسفي الذي يرتكز عليه السلوك الإنساني برمته! فما هو الأساس الفلسفي الذي استندت اليه الولايات المتحدة وتبعتها الدول الأخرى كي تنجح هذا النجاح المذهل في إخفاء الحقيقة؟ .. كنت أشاهد برنامجاً تلفزيونياً -وهو لقاء مع أحد القساوسة قال: اعتمدت الولايات المتحدة منذ نشوئها مبدأ الفردانية وليس العمل الجمعي، أي أنك إذا نجحت فانت (وينر- فائز) وإذا فشلت فأنت (لوزر- خائب) ... قد يبدو الأمر مقبولاً ومنطقياً وسلساً ولا يتضمن خللاً ما! ولكن إذا ما فكرت قليلاً ستكتشف الكارثة، بل الجريمة الكبرى .. كيف ذلك؟
أساس الوعي الإنساني كله هو العمل الجمعي، أي أن اختلاف الإنسان عن الكائنات الأخرى هو الحاجة لتواصل بين أفراد المجتمع يختلف عن أنواع التواصل بين أفراد القطيع أو السرب أو خلايا الحشرات أو غير ذلك (لغة). وبالتالي انسانيته مرتبطة بالعمل الجمعي وليس بالفردانية. وهذا أول الغيث وليس كله. أمّا الفردانية فهي عدم الاعتراف ليس بالآخر الذي يختلف معك وحسب، إنما بالمجتمع كله. قد يتبادر الى الذهن سؤال .. وما الفرق؟ .. الفرق هنا كالمسافة بين السماء والأرض، فإن كنت طبيباً مثلاً أو مهندساً أو عاملاً من أي نوع كان، فأنت - بالعمل الجمعي - لا تعمل من أجل ذاتك وحسب، إنما من أجل المجتمع كله بالرغم من الأجر الذي تتقاضاه، أما عندما تكون فردانياً فأنت تمنح نفسك الحق أن تضرب بحقوق المجموع عرض الحائط، وتكون مستعداً للتزوير والسرقة والقتل والإبادة الجماعية – إن تطلب الأمر- خدمة لذاتك وجشعك وأنانيتك. ولن يكون لديك أي مانع للتضحية بأولادك وشريكة حياتك وأمك إذا كان الأمر يدر عليك ربحاً! .. ولهذا السبب بالذات يتربى الذهن الفرداني -إذا صح التعبير- على الأنانية بواسطة أنواع الفنون المختلفة والإعلام الذي يسمى السلطة الرابعة.
كنت أتساءل باستمرار: لماذا تُبْرز الأفلام الأميركية اللصوص والقتلة المحترفين والنساء الداعرات على أنهم أبطال، وتوظف لهذا الأمر أفضل الممثلين والفنانين وبمبالغ هائلة؟ كما كنت أتساءل: لماذا هذا الجنون في الإمعان بأفلام مصّاصي الدماء وأفلام الرعب الأخرى؟ ولماذا لا تجد أفلاماً تتناول الهموم الاجتماعية إلا نادراً؟ وإن وجدت فالحل عند البطل الأمريكي الذي يهبط فجأة من المجرّات البعيدة بسرعة مليارات السنين الضوئية ليقول الحل عندي ولا أحد سواي! حتى الحب أصبح مبتذلاً في الفن الأمريكي، فيكاد حب الوطن أو حب الشريك أو الأولاد أو الأم معدوماً في الفنون الأميركية كلها، وأصبح التهريج والجنس المبتذل هو البديل! وإذا طرحت سؤالاً من هذه الأسئلة أو كلها مجتمعة على أحد الأمريكان، حتى لو كان مفكراً معروفاً، يجيبك بكل برود وابتسامة غبية .. هذه أميركا! أي أن الأمر لا يحتاج الى تفكير أو طرح أسئلة!
العدوى الفردانية لم تقتصر على الدول الرأسمالية أو المتقدمة، إنما انتشرت كالنار في الهشيم في معظم بلدان العالم. فمن الصعوبة بمكان أن تبني قيماً إنسانية اجتماعية سليمة، ولكن لا يوجد أسهل من أن تهدم تلك القيم .. النظر الى الأجيال الجديدة يجعلك تمتلئ يأساً، فالحل لأي مشكلة تواجههم مهما كانت صغيرة هو العنف، سواء كان لفظياً أو فكرياً أو حياتياً أو جنسياً أو أي نوع آخر. نحاول نحن الكبار جاهدين أن نفهم ما الذي اقترفناه بحق أولادنا؟ لقد وفرنا لهم لقمة العيش الشريفة والتربية والتعليم الناجزين، ثم نتفاجأ بمن يريد الهجرة، أو من لا يريد تكوين عائلة، أو من يتحول فجأة بدون بيئة حاضنة الى سارق أو قاتل أو ظالم أو عالة على المجتمع من أي نوع، أين إذن القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية العامة التي غرسناها فيهم أو يتراءى لنا ذلك؟ ولكن نحن نربي والشارع يربي، ولا أقصد أن يتخذ بعض الأنانيين هذه المقولة ذريعة للتنصل لواجب التربية، ولكننا نشتري الفردانية القذرة بأموالنا ثم نتساءل عن مصير أولادنا!
- د.عادل العلي