تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
وسعى، عبر الإشادة بتجربة مصر التاريخية الفريدة، إلى تعزيز الولاء للدولة المصرية، التي كانت من أقدم العصور مرتبطة بالتقدم والتطور واحتضان تعدد الثقافات. ويؤكد فودة أن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحالية لا يكمن في الانسحاب إلى عالم التاريخ الإسلامي المشكوك فيه والذي، باستثناء إضاءات نادرة في بعض الأحيان، لا علاقة له بالإسلام. وبدلا من ذلك، فإن الحل يكمن في المواجهة العملية مع العالم الحديث واقتباس الأفكار والمؤسسات التقدمية التي ليس لها نظير في الإسلام؛ ولكنها تتفق معه. (82)
العنصر الذي يربط الدين ويجعله ينسجم مع الواقع الدنيوي، يؤكد فودة، هو الاجتهاد المستنير، الذي بدونه سيبقى الإسلام رمزا ينقصه المحتوى والفائدة، في حين «يخوض المسلمون في أنهار من الدماء» نتيجة ضيق الأفق. (83)
ولا يمكن أن يصادق التفكير المستنير على مطلب تنفيذ الشريعة بسبب الصدام الجوهري بين أسس الدين، الثابتة دائما، وبين ظروف الحياة التي تتغير باستمرار. وسينتج حتما تنافر عند أية مواجهة بين الثابت وبين المتغير. وعندما ننظر بأثر رجعي، فقد نتج عن هذه المواجهة تغييرات في الأسس الدينية، كما حدث عندما أوقف عمر حد السرقة خلال سنوات القحط، وأوقف حد جلد شرب الخمر في أوقات الحرب. لقد توصل عمر ببصيرته إلى أسباب تلك الجرائم بدلا من الاتباع الأعمى لحرفية النص. كما رأى ببصيرته أن العدل هو الهدف المقصود للنص، وأن مخالفة النص في بعض الظروف يحقق العدالة. ومن ثمّ، قام بتطبيق الروح الحقيقية للإسلام. (84) وركزت هذه الأفعال على الإنسان بدلا من الجانب العقابي للشريعة وأثبتت أنه قبل اللجوء إلى الجلد أو بتر اليد، يجب على المسلمين توفير بنية تحتية اجتماعية آمنة ومستدامة. ومع مرور 1300 سنة - يؤكد فودة - اتضح أن المسلمين بحاجة إلى مزيد من الحرية في التعامل مع الانتهاكات الحتمية للشريعة. وقد عكست هذه الانتهاكات المشاكل المعقدة للمجتمع الحديث، مثل البطالة والازدحام، التي لم تكن موجودة في صدر الإسلام. ووفقا لذلك، لا بد من تشريع جديد لتلبية احتياجات المجتمع؛ لأن الشريعة، أكد فودة، غير قادرة على تلبية هذه الاحتياجات. (85) وفي حين أن الإشارة إلى الشريعة تظهر في الواقع في البند الـ2 من الدستور، فإن صياغته كانت «مبادئ الشريعة الإسلامية» وليس «الشريعة الإسلامية» في حد ذاتها. ولم تكن تلك الصياغة مجرد فذلكة لغوية؛ فالصياغة الأولى لها معنى واسع وتشير إلى المبادئ العامة للإسلام، وهي بطبيعتها مرنة ومبنية على العدل والرحمة والمصالح المشتركة. وأما الصياغة الثانية فهي ضيقة المعنى وتشير إلى تنفيذ حرفي لنصوص القرآن والسنة، وبخاصة الحدود.
فودة:
القانون الوضعي المصري يتفق مع روح الشريعة!
ويشير فودة إلى أن القانون الوضعي في مصر يتفق مع روح الشريعة! ويفرض عقوبات صارمة على مرتكبي جرائم في حالات لم يرد لها عقاب في نصوص الشريعة الجامدة. فالزنا، على سبيل المثال، يمكن إثباته بعدة طرق، مثل مخلفات وآثار وجود الرجل في غرفة المرأة. كما تُفرض عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة لتهمة الاتجار في المخدرات، بعكس الشريعة الإسلامية التي تفرض عقوبة الجلد فقط، قياساً على عقوبة شرب الخمر. (86)
ويرى أن إصرار الإسلامويين على تطبيق الشريعة باعتبارها العلاج الوحيد لأمراض المجتمع، بالرغم من ثبوت عيوبها التاريخية والعملية، يعكس رغبتهم في تأسيس دولة دينية تحت سيطرتهم المباشرة أو غير المباشرة. ويعد فودة ذلك كهدف سياسي بعيد عن روح كل من الإسلام والعصر الحديث. وإذا تحقق ذلك الهدف، يجادل فودة، فسيؤدي إلى فراغ على المستوى الحكومي نظرا لعدم وجود برنامج سياسي إسلامي، كما سيؤدي إلى تلاشي الديمقراطية، وتدمير الوحدة الوطنية بين المسلمين وبين الأقباط. وينبع هذا التهديد مباشرة من خلط السياسة مع الدين، مع كون الشريعة نقطة تقاطعهما. والجدل، يصر فودة، ليس فلسفياً، بل يقوم على وقائع الأنظمة الإسلامية السابقة والحالية، والتي بالرغم من مزاعمها عن شرعيتها الدينية لم تنتج حكومات عادلة ولم تعزز رفاهية وسعادة شعوبها. (87) ....... ويؤكد أن الحكومة الدينية مستبدة بطبيعتها، لأنها تتمسك بحقيقة مطلقة واحدة، ولا تؤمن بتعدد الآراء. ومن ثم، فإن الحل لا يكمن في دمج الدين في السياسة في الإسلام؛ بل فصل الدين عن السياسة.
ويزعم فودة أن هذا الفصل يقوم على تصور علماني للحكم، ويعد علامة على «الدولة المدنية»، ويشرح فودة أن العلمانية لا تعني الكفر كما يزعم الإسلامويون، فليس لمصطلح العلمانية، وكذلك مصطلح الديمقراطية، معنى نهائيا أو جامدا؛ بل يختلف المعنى وفقاً للظروف الثقافية والتاريخية لكل بلد. إن علمانية فرنسا وإنكلترا، على سبيل المثال، تختلف عن بعضها البعض؛ فبينما تتميز فرنسا بفصل كامل بين الدين وبين الدولة، فإن رئيس الدولة الرسمي - الملك أو الملكة – في إنكلترا هو الذي يرأس الكنيسة. والوضع المصري يقع في مكان ما في الوسط؛ فعلمانيتها ترتكز على الفصل بين الدين والحكومة، مع ترك مساحة لتفاعل الدين والدولة. وهذا الترتيب منصوص عليه رسميا في البند الثاني من الدستور الذي يشير إلى أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي. وتراقب الدولة المؤسسات الدينية وتعين رؤسائها، كما تحترم الأعياد الإسلامية، وتمنح دوراً عاماً مهماً للإسلام في وسائل الإعلام والنظام التعليمي. ويتم تنفيذ كل هذا دون استعمال الدين لغرض سياسي، بل تحافظ عليه كمكون ثقافي للمجتمع. (89) حقاً إن الإسلام جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية، ويتجلى ذلك عبر خصائص مصرية لا توجد في مجتمعات شرق أوسطية أخرى مثل الموقف المتسامح نحو الأقليات. وبهذا المعنى، فهناك إسلام مصري، تماما مثلما يوجد إسلام سعودي وإسلام إيراني، وجميعها تشترك في طقوس ذات أسس مشتركة؛ ولكنها تتميز بنكهة خاصة لكل دولة بسبب اختلاف الأنماط الثقافية. (90)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com