قبل عدة أيام تناقل المغردون مقطعاً مصوراً لآسيوي يعمل راعياً عند أحد ملاّك الماشية، تبدو عليه علامات الإعياء والتعب الشديد، يقطع الصحراء في ليلٍ ألْيَل، ويشكو من عدم إعطائه مرتبه الشهري لمدة تزيد على الثلاثة أشهر، ولا يوجد في جعبته أي شيء، حتى الماء!
لا يهمني الآن ما تبقى من قصته مع وزارة العمل، ما يهمني هنا هو أن أتناول واحدة من أشهر مقولات دراسات التابع، التي تركز على صوت المهمشين التابعين أكثر من صوت المثقفين، وعلى الأداة أو الطريقة التي توصل ذلك الصوت، خاصة أنّ قصة هذا العامل تحوّلت من حالة فردية إلى قضية رأي عام، بفعل الأداة (عدسة الجوال)، والطريقة (نشر المقطع في تويتر بواسطة مواطن سعودي).
وقد عُرف مصطلح التابع أو ما يسمّى بالإنجليزية subaltern في خطاب ما بعد الاستعمار، ومن الممكن جداً أن تُختبر مقولات ذلك الخطاب وتطبق على هذه القصة ومثيلاتها التي تحدث في مجتمعنا السعودي بشكل يومي مع العمال الأجانب المضطهدين، إذ لا يمكن إنكار تبعيتهم لرجال أقوى منهم سلطة، وأعلى منهم طبقة، كما هو الحال بين المُستَعمِر والمستَعمَر، ولعل أبرز ما يمكن استعارته من تلك المقولات هو السؤال الفلسفي الوجودي الذي طرحته سبيفاك في دراستها لما بعد الاستعمار، عن النساء الهنديات اللاتي يتبعن أزواجهن حتى في الموت: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ Can the subaltern speak?، والمراد بلفظ «يتكلم» هنا ليس فعل النطق، وإنما إيصال صوت المعاناة والشكوى والمطالبات بالحقوق، إذ ترى هذه الناقدة الأمريكية من أصول بنغالية، أنّ ما تفعله النساء في مجتمعها وموطنها الأصليين من قتل أنفسهن للحاق بأزواجهن إنما هو لغة أخرى وصوت للمهمشين، ليس بإمكان المثقفين فهمه أو حتى التعبير عنه! فهل بإمكان عامل آسيوي يعمل راعياً للماشية في صحراء قاحلة أن يتكلم عن الظلم والقهر الذي يتعرض له من قِبل كفيله ويطالب بحقوقه بعد ذلك؟
الحق أنّ هذا العامل قد لا يستطيع فعل ذلك بنفسه في ظل عدم أهليته وقدرته، وعدم امتلاكه الأداة النافذة التي توصل صوته للآخرين، لكن ربما يتصدى لقضيته رجل يمتلك تلك الأداة كما فعل المواطن السعودي الذي وثق الحادثة بعدسة التصوير، أو كما فعل الروائي الهندي دانيال بنيامين الذي كتب رواية «أيام الماعز» بلغتها المليالمية، عن راعٍ من جنسيته واجه معاناة لا تختلف كثيراً عن معاناة صاحبنا هذا في إحدى صحاري السعودية الشاسعة، حتى أثارت روايته بموضوعها وأحداثها العديد من وجهات النظر العالمية لهيئات ومنظمات حقوقية ضد مجتمعنا السعودي وضد نظام الكفالة لدينا، وطبعت الرواية بلغتها الأصلية حوالي الثمانين طبعة منذ أن صدرت عام 2008م، كما ترجمت إلى عدة لغات ورشحت للعديد من الجوائز القيمة على مستوى العالم، إضافة إلى إقرار تدريسها في العديد من الجامعات والمدارس الثانوية الهندية! وعلى الرغم من المبالغات التي وردت في الرواية، والتي لا تخلو منها الكتابة الروائية أصلاً؛ إلا أنه لا يمكن إنكار جدّة هذه الفكرة، وأهمية تصوير الموضوع أدبياً، وتوثيق المعاناة التي يعيشها عدد كبير من العمال الأجانب الرعاة وغيرهم في بلادنا، ولهذا فقد أوصلت الرواية صوت التابع وأثرت تأثيراً سلبياً على صورتنا نحن السعوديين في الخارج، ومن الأشياء التي لا يمكن فهمها هو أن تمنع وزارة الثقافة فسح الرواية وبيعها في الداخل!
يجب أن نعي بأنّ صوت المهمشين والمنبوذين والمضطهدين والتابعين يصل بأكثر من طريقة، وبأنواع مختلفة من الأدوات، فمرة بعدسة المصور الموهوب، ومرة أخرى بقلم الكاتب البارع، ولكل طريقة أناسها وتأثيراتها وعواقبها، وأشدها التي تجعلنا نستحيي من سلوكنا تجاه الرأي العام، ونسعى إلى تبرير أفعالنا وتفسير واقعنا السيئ، فمرة يلجأ متحدث وزارة العمل إلى التعهد أمام عامة المغردين في تويتر بمحاولة الوصول إلى الراعي التابع ومحاسبة الكفيل، ومرة أخرى تقف وزارة الثقافة ضد الروايات المكتوبة عن ذلك التابع وتمنعها من أن تصل إلى عامة القراء، وكان يكفي عن ذلك كله أن يُسنَّ قانونٌ صارمٌ يحمي حقوق «التابع» حتى لا يتكلم ويتكلم!
- د. حمد الهزاع
h.hza@hotmail.com