علي الخزيم
حينما كانت أطراف مضارب حاتم طي كريم العرب تُرِيك أكوام الرَّماد والمخلفات والنفايات اثر أعمال الطبخ والخَبْز والشِّواء اليومي للضيوف وعابري الطريق، فإن ذلكم كان أمرًا جاء تلقائيًا وبطبيعة الحال، أي أن حاتمًا لم يأمر أو يتعمَّد افتعال كثبان الرَّماد أمام مضاربه بمرأى ضيوفه وأعين سالكي الطريق قبالة منازله وخيامه، والعرب آنذاك تُدرك هذا المعنى فتقول عن الكريم كحاتم (كثير الرماد) كناية عن الكرم، فلولا كثرةأاضيافه ومرتادي مضاربه من الأعيان ووفود القبائل التي تُفَضِّل المرور على ديوانه أثناء تنقلها من مفازة لأخرى لِمَا تجده من حسن الاستقبال وكريم المعشر؛ لما تجمعت وتصاعدت هذه الأكوام من محروقات الحطب وبقايا المَضَافة، وهو القائل:
(أُضاحِكُ ضَيفِي قَبلَ إنزال رَحْلِه
ويُخْصِبُ عندي والمكانُ جَدِيبُ)
هذا المشهد الخلاب مُتَخيَّل لنواحي مضارب حي حاتم من طي، أو من أي قبيلة عربية فكلها تتبارى وتتسابق بتلقائية وعفوية سلسة نحو بلوغ أعلى درجات ما يمكن الاتصاف به من السجايا والخصال الحميدة، دون مشاحنة أو منافسة تَخْرُج عن إطار القِيَم المتعارف عليها، وإن حدث وتقاذف الفتيان فيما بينهم سهام الشعر والقافية فخرًا واعتزازًا بموقف بطولي أو شيمة عربية زعمًا بِتَمكُّنهم منها أقوى من الآخر المَوْصُوم، فإنما هي مناوشات جانبية لا تؤثر على تماسك الأحياء من القبيلة الواحدة، ولا تثير نعرات غير مقبولة بين قبيلة وأخرى، وأما تلك السجالات التي رواها التأريخ المُدَوَّن فهي ثمرة لسلسلة طويلة مَرَّت عبر سنوات من التنافس الذي يبدأ عادة مُتّسقًا مع مبادئ وأعراف القبيلة لا يخرم شيمها ومعايير إبائِها، غير أن مواقف الفخر الجانبية بين فتيان الأحياء والمضارب، أو فرسان من هذه القبيلة وتلك؛ تدفعهم لمزيد من الدخول بسجالات تُعزز موقف كل طرف على الآخر، مما رصد لنا نتاجهم الشعري بالفخر بجوانبه المتعددة، وبالتالي تصاعُد وتيرة الإبداع وتفَرُّع أغراضه وبروز أعلام في الشعر والأدب العربي في عصر ما قبل الإسلام الذي ينعتونه بـ(عصر الجاهلية) ولم يكن العرب آنذاك غارقين ببحور الجهل والظلام، بل كانت لهم مدارس فكرية وحضارة زاخرة بالعلوم والفنون والآداب رصدتها آثارهم ومدوناتهم وتراثهم، عبقريات عربية لفتت العالم في حُقَبٍ متعاقبة فأين الجاهلية المزعومة؟ إلا أن المقصود تلك السُّنيَّات التي صاحبت البعثة النبوية المُحمدية والدعوة للإسلام فمن تَخَلَّف وصِمَ بالجاهل، ووصفت الجماعة والمرحلة بالجاهلية لبُعدها عن الدين القويم، وليس إنكارا لموروثها الثقافي المَعْرفي في كل مجال.
وعليه فإن مُدَّعي الكرم المُحْدَثين الآن ممن يتعمدون إظهار أنفسهم وتلبُّس الصفات الحاتمية بافتعال ولهاث نحو المظهر والتظاهر بالكرم، يبقون أبعد ما يكونون عن هذه المفخرة والسَّجِية، حتى وإن وضعوا جبالاً من بقايا الهيل والقرنفل والقهوة أمام منازلهم وإن أضاءوا مصابيح استراحاتهم برابعة النهار، وأوقدوا مواقد الحطب والبخور في سُرادِقهم وصالوناتهم، فالطبع ثابت والتطبع لا يدوم ويسقُط عند أبسط عارض وأخف هزة مالية واجتماعية، تقول العامة: (المُلَصَّق يطيح بُكْرَه).