أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كلُّ ما خالَفَ ضروراتِ العقلِ ومُرادَ الشرعِ إذا تَعيَّنَ دلالةً وثبوتاً: فهو موجِبٌ الاستسلامَ والانقيادَ للأمْرَين اللذين هما ضرورةُ العقلِ، وتعيُّنُ مراد الشرع؛ وهذانِ موجبانِ طُمأْنينةَ القلبِ ببرهان الْقِسْمَةِ الحاصِرة كما في قولِ الله سبحانه وتعالى {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس؛ فالعقل لا يتصوَّر إلا الحقَّ أو الضلالَ، ولا ثالث لذينك.. فإن تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ هنالك قِسْماً ثالثاً ؛ وهو الباطل؛ لدلالة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (62) سورة الحـج، و[ سورة لقمان/30]: فالجواب أن هاتين الآيتين غيرُ حاصرتين ؛ بل ذكرتا صفةَ الله بأنه الحق، وصفةً ما يدعوا الكفار من دونه بأنه باطل مع احتمالِ وصفٍ ثالث، وعدم احتمالِه ؛ ومِن ثَمَّ يُوْرَدُ الإشكالُ بأنَّ الله حصر قِسْمَةَ العقل في حقٍّ وضلالٍ، ولا يحتمل العقلُ غيرَ هذين القسمين ؛ فمن أين إذن جاء الباطل ؟!.. فهل الباطلُ هو الضلالُ؟!.. والجواب عن هذا الإشكال: أنَّ الباطلَ ليس قِسْماً ثالثاً ؛ بل هو وصف للقسم الثاني الذي هو الضلالُ، فما دام القسمُ الثاني ضلالاً، ولا احتمال غيرهما: فحكمُ الضلال الذي هو القسم الثاني: أنَّه باطل؛ فما كان باطلاً فحكمُه أنَّه لا وجود له: إمَّا واقعاً، وإمَّا حُكْماً.
قال أبو عبدالرحمن: في سياق أبي حامدٍ الغزَّالي عفا الله عنه في كتابه (المستصفى) 3/353ـ 354: أوْردَ قولَ الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (14) سورة المؤمنون، واستدلَّ بها على مَنْعِ التعارض بين العقل والنقل، ثم قال في تفسير {الْخَالِقِينَ} بالمقدِّرِين.
قال أبو عبدالرحمن: إذا قَدَّرَ الله ما يُرِيْدُ خَلْقَهُ إياه زمناً وحَجْماً (وذلك هو معنى التقدير): فإنه يقع وقتاً وحجماً كما أراده الله.. وأمَّا ما ورد عن عيسى بن مريم عليهما صلوات الله وسلامُه وبركاته في إحيائه الموتَى كما في خبر الله عنه في قوله تعالى: {..... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي ....} (110) سورة المائدة: فإن كل ذلك أوَّلاً بإقدارِ الله عيسى، وبتعليمه إياه، وبإذنه؛ فكلُّ ذلك إذَنْ صُنْعٌ أدَّاه عيسى، والله خالِقُ كلَّ ما سواه، وخالِقُ ما صنعوا؛ فالله هو الخالق على الحقيقة، ومُوْجَزُ القولِ أنَّ الْخَلْقَ الذي هو من حق الله وحده، وليس لأحد غيره، ولا يمكن أن يُوجد أَلْبَتَّهَ بِدَعْوى أنَّه مُسْتَغْنٍ عن الله: فذلك كما أسلفتُ لا يكون ألبتة؛ لأنَّ عمل الخلق من مادةٍ خلقها الله، وبأناملَ ومهاراتٍ وعقولٍ وجوارحَ خلقها الله؛ وهو عمل محدود عن تعلَّمٍ ومعاناة.. والله سبحانه وتعالى أبْدع كلَّ شيءٍ على غير مثال، وخلق الوجود من عدم، ويخلق ابتداء، ويخلق خلقاً من خلق، وهو غني عن الْـمُعاوِن والظهير، بل كل شيءٍ يقوم بالله سبحانه وتعالى، ولا يقوم هو جلَّ جلاله على شيءٍ من خلقِه؛ ومن براهين ذلك قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة (115) وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (67) سورة الزمر .. وما يَنْسِبُه بعض المتساهلين من فِعْلِ الخلق إلى ابن آدم مثلاً: فإنما هو بمعنى الافتراءِ ؛ أَخْذاً من قول العرب عن الكَذوبِ: يخلق ما يقول؛ أي يفْتريه.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.