القصيم- خاص بـ«الجزيرة»:
أكد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفتي منطقة القصيم ضرورة مراعاة حال المخاطبين، والذين يستمعون إلى الفتوى من حيث صياغة الفتوى ولغتها، وذلك لوجود الأمي والمتعلم والمفكر والطالب والصغير والكبير والذكر والأنثى. وشدد د. عبدالله الطيار في الجزء الثاني من حواره مع «الجزيرة» على الالتزام بمنهج الوسطية في الفتوى، والاستناد إلى مصادر التشريع الإسلامي، منبهًا إلى خطورة استعجال بعض العامة في أمور الشرع بقولهم هذا جائز، وهذا حرام، وهذا بدعة، وكذا بعض الشباب وتصدرهم المجالس للفتيا من دون علم.
وتناول د. الطيار في حواره مسألة انزلاق البعض إلى تصنيف الناس حتى أصبحت ظاهرة وانتشرت في الفترات الأخيرة، مشيرًا إلى أن قلة العلم وفوضى الساحة العلمية والدعوية من أسباب انتشار تلك الظواهر المشينة.. وفيما يلي نص الحوار:
في مسألة اختلاف العلماء كيف يجد المسلم نفسه من فتواهم، وكل منهم له بينته فماذا يفعل المسلم في هذه الفتوى؟ وأيَّ منهم يتبع خصوصًا إذا اقتنع بكلا الفتوتين؟
- للإجابة عن هذا السؤال نقول: سؤال نطرحه عليك إذا مرض المريض فذهب إلى طبيبين، كل منهما يصف له دواء غير الآخر، في هذه الحالة إلى من يرجع المريض؟ لا شك أنه يرجع إلى من يطمئن إليه قلبه أنه هو الأعلم والأوثق لأنه ليس كل عالم يكون ثقة.
إذا كان هذا في أمر المرض العضوي فكيف لا يتحرى المسلم من يشفيه بعد إذن الله له بالشفاء من المرض المعنوي، وقد جاء في الأثر «شفاء العي السؤال».
فالذي ينبغي على المسلم القيام به عند اختلاف عالمين ينظر أيهما أوثق في نظره من حيث العلم ومن حيث الدين، ويأخذ بما يطمئن قلبه إليه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب» ولا ينبغي له سؤال غيره، لكن إن لم يكن عنده طمأنينة ولا ترجيح فبعض العلماء قال: لك أن تأخذ بقول هذا، أو بقول هذا؛ فأنت مخير، وبعضهم قال: يأخذ بالأشد لأنه الأحوط، هذا إذا كان العالمان محل ثقة واطمئنان عندك.
وهناك قول آخر وهو أنك تأخذ بالأيسر لأنه هو المناسب لروح شريعة الإسلام، لأن الشريعة مبناها على اليسر؛ فما دمنا أننا لا نعلم أن الدين أوجب هذا الشيء أو منع هذا الشيء فنحن في حل.
ما السبب الذي يجعل بعضهم يفتي بغير علم؟ وما عقوبة ذلك في الدنيا والآخرة؟ وبما تنصحون أولئك المفتين بغير علم؟
- كان السلف يتحرجون من الفتوى ويتدافعونها حتى إنهم تعرض عليهم في المجلس الواحد المسألة فيتدافعونها فترجع إلى الأول. ولذا فمن أخطر الأمور وأعظمها جرمًا القول على الله بغير علم، وقد قرنه الله جل وعلا بالشرك فقال {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} ( النحل -116).
ولذا فالناس حيال هذا الأمر أربعة أصناف:
الأول: من رزق علمًا وعملاً وهؤلاء هم الخيار وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
الثاني: من حرم العلم والعمل وهؤلاء هم شر الدواب، وإن علموا شيئًا من ظاهر الحياة لكنهم في أبواب العلم والخير كالخشب المسندة.
الثالث: من فتح له باب العلم وأغلق عنه باب العمل وهذا شر من الجاهل لأنه علم لم يزده إلا وبالاً.
الرابع: من رزق العزيمة على العمل والطاعة واجتهد في هذا الباب وقل نصيبه من العلم؛ فهذا خليق أن يوفق بداع من دعاه. وإذا لاحظنا مجالس الناس وجدنا الجرأة على هذا الأمر:
فبعض العامة يستعجلون في أمور الشرع، ويقولون هذا جائز، هذا حرام، هذا بدعة، هذا ما عرفناه في حياتنا. وبعض الناس إذا أراد أن يستفتي عالماً قال له فلان أو فلانة: هذا معروف، هذا حلال لماذا تسأل عنه.
أما من عندهم شيء من العلم لكنه حرموا الورع والتروي؛ فهم أجرأ الناس على الفتيا وأكثرهم استعجالاً في التحليل والتحريم.
وبعض الشباب يتصدر المجلس وهو حدث ويسأل عن عشرات المسائل فلا يقول لا أدري أو الله أعلم، وقديمًا قيل: من ترك لا أدري أصيبت مقاتله، وإذا كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أشياء فلم يجب وانتظر الوحي من ربه فكيف بعامة الناس.
وإني أنصح هؤلاء الذين يفتون بغير علم ويقولون على الله الكذب أن يتقوا الله تعالى فيما يقولون، وأن يحذروا غضب الله تعالى وسخطه وأليم عذابه، وليتوبوا وليحسنوا فيما بقي من أعمارهم عسى الله أن يتجاوز عنهم.
يرجع بعضهم كثرة المتجاوزين عن آداب الفتوى بسبب ضعف المرجعية الدينية .. برأيكم ما الحل لضبط الفتوى في المجتمع؟
- لا شك أن ضوابط الفتوى الشرعية لها دور كبير في الابتعاد عن كل الفتاوى التي لا تتحقق فيها تلك الشروط، أو يختل فيها بند من بنودها، ولعل من أهم ضوابط الفتوى في الإسلام:
1 صدورها من مفت مؤهل، فإن لم يكن مؤهلاً لذلك حرم عليه الإفتاء لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف/ 33)
والحقيقة أن من أهم أسباب فوضى الفتوى المعاصرة وانتشار الفتاوى الشاذة هو تصدر غير المؤهلين ممن لا علم لهم ولا فقه الشاشات للفتوى بغير علم، وهي معضلة قديمة بلا شك إلا أنها كانت قليلة ونادرة لا تقارن بهذا العصر.
2 - استناد الفتوى إلى مصادر التشريع الإسلامي الرئيسة «الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع»، فالفتوى التي لا تستند إلى دليل شرعي معتبر لا يؤخذ بها، بل هي علامة على كون الفتوى غير معتبرة وشاذة.
3 - الالتزام بمنهج الوسطية في الفتوى، فلا ميل للتشدد ولا للتساهل، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه.
لكن لا يكون الأخذ بالوسط فيه نوع تحري الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف وساطة وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فاتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه ذكر ذلك الإمام الشاطبي.
4 - إرشاد المستفتي إلى ضرورة مراجعة مفتي بلده في قضايا الطلاق وغيره مما يرتبط بالمكان والزمان، ومفتي البلد أعرف من غيره فيها.
5 - التركيز على الجوامع وما لا يؤدي للخلاف ويوحد الصف.
6 - ضرورة سؤال المستفتي عن «بلده» وإقامته وهل هو ملتزم بمذهب معين أو ينتشر في بلده مذهب ما.
7 - ألا يمتنع المفتي عن تأجيل البت في الفتوى إذا لم تكتمل «الصورة» لديه وكان بحاجة إلى مزيد بحث أو مشاورة لأهل العلم، ولا يغفل عن قول «لا أدري» أو «سأبحث الأمر» أو «سأوافيكم بالجواب»، ولا مانع من أخذ عنوان المستفتي أو نشر الفتوى على صفحة الإنترنت الخاصة بالبرنامج أو بأي وسيلة متاحة أو في حلقة قادمة بعد استكمال البحث.
8 - مراعاة حال المخاطبين والذين يستمعون إلى الفتوى من حيث صياغة الفتوى ولغتها، فهناك الأمي والمتعلم والمفكر والطالب والصغير والكبير والذكر والأنثى.
انتشار ظاهرة التصنيفات في المجتمع وبالذات في المؤسسات الشرعية، ما أسبابه؟
- مسألة انزلاق بعضهم إلى تصنيف الناس وعلى الأخص أهل العلم، ووضعهم في تصنيفات ضيقة هي للأسف ظاهرة موجودة بلا شك وقد انتشرت في الفترات الأخيرة، فالناظر في الساحة الإسلامية يرى من انقسامات وتصنيفات وتجريحات وتفرقات ما يدمع العين ويدمي القلب، وهي ناتجة من أمور كثيرة منها.
أولاً: اختلاف الأفهام والتعصب للرأي.
ثانيًا: إعجاب كل ذي رأي برأيه وحب الرياسة والظهور: ولا شك أن في هذا من إيغار الصدور وبث بذور الشقاق والخلاف ما فيه، فكيف إذا تفشى بين كثير من أفراد الجماعة؟ إن هذه الآفات كفيلة بإحداث الانقسام في أي مجموعة تظهر فيها، فإذا أعجب المرء برأيه لم يكد يسمع لغيره، فضلاً عن أن يقبل منهم.
ثالثًا: نفي السلفية عن الآخرين: وسبق أن بينا معنى السلفية وقلنا إنها منهج واضح بين، يقوم على الأخذ بالكتاب والسنة وتعظيمهما والعمل بهما في الظاهر والباطن وتحكيمهما في كل الاعتقادات والأفعال والأقوال، مع ضبط ذلك كله بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على دربهم ومنهجهم من الأئمة المتبوعين والعلماء العاملين، وحجر هذا المسمى على طائفة دون الأخرى ووصف هذه الطائفة بأنها هي السلفية الحقة ووصف الأخرى بأوصاف لا تليق هذا من أعظم الأسباب التي أدت إلى حصول هذه الانقسامات وهذه التصنيفات فتنفي السلفية دون تثبت وبأدنى شبهة، بل أحيانًا بمحض التشهي والتشفي.
رابعًا: سوء الظن بالمخالفين وإلقاء التهم جزافًا فيقولون هذا مبتدع وهذا يتبع فلان المخالف للمنهج ويصنفون الناس حسب ما يرونه وذلك لأنه خالف في رأي يراه هو الصواب مع أن الأصل أن تحمل حال المسلمين على السلامة؛ السلامة من الكفر والبدع والمخالفات، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين، ويتأكد هذا مع من يرفع راية الإسلام ويدعو إليه، ومن باب أولى مع من يدعو إلى منهج السلف ويذب عنه ويزعم الانتساب إليه.
فإن قدر أن صدر من بعض الأفاضل ما يحتمل أن يخالف ما يدعون إليه من منهج السلف، فينبغي حمل كلامهم وأفعالهم على أحسن المحامل، والاعتذار عنهم بشتى أنواع الأعذار؛ كسبق اللسان أو القلم، أو الذهول عن الاحتمال الرديء، أو غير ذلك. ثم لو قدر أن يصدر من الفاضل ما لا يحتمل التأويل ولا الحمل على المحمل الحسن، فإنه يحتمل من الفاضل ما لا يحتمل من غيره، وسابق فضله وعلمه قد يكون بحرًا تنغمر فيه مثل هذه الزلة، وأي امرئ لا يقع في الزلات والأخطاء والهنات؟
خامسًا: قلة العلم وفوضى الساحة العلمية والدعوية: ونقصد بهذه الفوضى الجرأة التي نراها من بعض الناس الذين لا يرقون إلى مرتبة طلاب العلم فضلاً عن أن يكونوا علماء، حيث نجد الواحد منهم يتكلم في كل باب من أبواب العلم والدعوة، وإذا سئل أفتى بغير علم فضل وأضل، هذا مع كون المسألة الواحدة من أمثال هذه المسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر. ولئن كان مثل هذا الأمر ليس بالأمر الجديد، إلا أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة قد ساهم في تعاظم أثر هذا الأمر وخطورته، فرسائل المحمول ومواقع الشبكة العالمية أتاحت كمًا هائلاً من فرص نشر الآراء والمعلومات.
سادسًا: الخلل في ميزان التقويم: للأسف فالناظر في الخلافات على الساحة السلفية يرى أن كثيرًا مما يؤدي منها إلى الانقسام ليس على تلك الدرجة من الأهمية التي أعطيت له، فمنها ما وسع سلفنا السكوت عنه، ومنها ما قدم وحقه التأخير، ومنها ما أعطي أكبر من حجمه بكثير؛ ومرجع هذا في نظرنا إلى وجود خلل لدى بعضهم في ميزان التقويم.
سابعًا: طلاب السوء وعدم التثبت من نقل الكلام: وطلاب السوء، هم أناس يتحلقون حول المشايخ لطلب العلم أو حضور الدروس العامة، ثم ينقلون ما يسمعونه من أحد المشايخ لغيره ممن قد يقول في المسألة بقول آخر، وقد يزيد الطالب كلامًا من عنده، أو قد يفهم الكلام على غير وجهه فيقع من نسبته القول لهذا العالم من الشر ما الله به عليم، وشر من كل ما سبق من يعلم بوجود خلاف في مسألة ما فيأتي لأحد المشايخ فيقول: ما تقول يا شيخ فيمن يقول كذا وكذا؟ وقد يكون الشيخ خالي الذهن ولا يقصد إساءة أو تجريحًا لأحد فيأخذ الطالب مقالته إلى الشيخ الآخر قائلاً: الشيخ الفلاني يقول عنك كذا وكذا. فكم من فتنة أشعلها أمثال هؤلاء الطلاب، وكم من عداوات قامت بسببهم، وإلى الله المشتكى.