د.محمد بن عبدالرحمن البشر
البعض منّا يعلم أن لابن زيدون رسالتين مشهورتين الرسالة الجدية، والرسالة الهزلية، أما الرسالة الأولى فقد ألف عنها الصفدي كتابًا سماه «تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون»، وأما الرسالة الثانية فقد ألف عنها ابن نباتة المصري، كتابًا سماه «سرج العيون في شرح رسالة ابن زيدون» وكلاهما كتابان رائعان حملا بين ثناياهما فوائد وطرائف، وأمثالها، وشواهد كثيرة لكل جملة وردت في الرسالة.
وابن نباتة المصري في شرحه للرسالة الهزلية استشهد بجملة ورد فيها اسم الكندي، وذلك بقوله «وجعلت للكندي رسمًا استخرج به الدقائق» والكندي هذا هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح، المسمى في وقته فيلسوف الإسلام، من ولد الأشعث بن قيس، كان أبوه الصباح من ولاه الأعمال بالكوفة وغيرها، في أيام المهدي والرشيد، وانتقل يعقوب إلى بغداد، واشتغل بعلم الأدب، ثم بعلوم الفلسفة جميعها، فأتقنها، وحل مشكلات كتب الأوائل، وحذا حذو أرسطاطاليس، وألف الكتب الجليلة الجمّة، وكثرت فوائده وتلاميذته، وكانت دولة المعتصم تتجمل به وبمصنفاته، وهي كثيرة جدًا، ومن أجودها كتاب «أقسام العقل الأنسي»، وكتاب «الجوامع الفكرية»، وكتاب «الفلسفة الأولى».
وله أخبار حسنة، ونوادر في البخل وغيره، ومن أخباره أنه كان جالسًا عند المعتصم، فدخل أبو تمام، فأنشد قصيدته السينية، فلما بلغ قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الكندي: ما صنعت شيئًا قال كيف؟ قال: ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب، ثم ذكر شيئًا آخر، فأصرف أبو تمام، وأنشد:
لا تذكروا ضربي له من دونه
مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً مـن المشكاة والنبراس
فتعجب الأمير من بديهيته ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل، فاستصغر عن ذلك، فقال الكندي، ولّوه فإنه قصير العمر، لأن ذهنه ينحت من قلبه، فكان كما كان أو أنه رأى في سجية أبي تمام في ذلك الوقت ما جعله يقول مقولته.
وفي أربع متى حلت منك أربع
فما أدرى أيها هاج لي كربي
خيالك في عيني، أما الذكر في فمي
أم النطق في سمعي، أم الحب في قلبي
قال: والله لقد قسمتها تقسيمًا فلسفيًا وهناك نادرة أخرى ذكرها ابن نباتة، لم استحسن إيرادها.
ومن نوادره وكلامه في البخل، كان يقول من شرف البخل أنك تقول: لا، ورأسك مرفوع إلى فوق، ومن ذل العطاء، أنك تقول: نعم، ورأسك إلى أسفل.
وكان يقول: سماع الغناء علة حادة، لأن الإنسان يسمع فيطرب، فينفق فيسرف، فيندم فيغتم، فيقتل فيموت. وقال عمر بن ميمون، تغديت يومًا عند الكندي، فدخل جار له، فدعوته إلى الطعام، فقال الرجل. والله تغديت، فقال الكندي. ما بعد الله شيء. فكتفه تكتيفًا، لأنه لو أراد أن يأكل معه لكان قد نكث بيمينه. ومن وصيته لولده: يا بني كن مع الناس كلاعب شطرنج، تحفظ شيئك، وتأخذ من شيئهم، فإن مالك إذا خرج من يديك لم يعد إليك، وأعلم أن الدينار محموم، فإذا صرفته مات، وأعلم أنه ليس شيئًا أسرع فناء من الدينار إذا كسر، والقرطاس إذا نشر، ومثل الدرهم كمثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك، فإذا طار عنك صار إلى غيرك، وقال المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى
ولا يبقى الكثير مع الفساد
لحفظ المال خير من تعاد
وسير في البلاد بغير زاد
هذا ما أورده ابن نباتة المصري عن الكندي والحقيقة أن الكندي فيلسوف مشهور متبحر في علم الفلسفة، وربما فادته فلسفته إلى أن يكون بخيلاً، لأن البخل والكرم بالرغم من أنهما جبلة بشرية، إلا أنهما أيضًا يقعان تحت تأثير الفلسفة، كما هي حال الأقوام الآن، فهناك أمم تحاول الادخار كما هو حال اليابانيبن، وعلى الرغم من طرح الحكومة لكثير من البرامج والمحفزات للإنفاق، إلا أن الياباني بطبعه يحرص على الادخار، حتى وإن كان المردود على مالية لا يكاد يذكر، أو ربما يتم أخذ ضريبة بسيطة على ماله المدخر، وفي المقابل نجد أن شعوبًا أخرى تنفق بسخاء، ولا تكاد تدخر إلا القليل، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن معظم الشعب الأمريكي ربما يرهن دخله لسنوات كثيرة خادمة في سبيل شراء ما يحتاجه، أو ما يغتنم به وقته، وذلك من خلال أخذ القروض الاستهلاكية من البنوك، ولهذا فإن القوة الشرائية في المحلية الأمريكية عالية جدًا. والشعب العربي لديه موروث يستحيل أن يتجاوزه، وهو الكرم حتى على حساب المستقبل، ومن كان ذا يسره، فإن البعض قد يتجاوز الإسراف إلى البذخ بلا حدود، بالرغم من أن الإسلام يأمرنا بأن نأكل ونشرب دون إسراف، لكنها العادة التي تغلب أحيانًا عن العقل والمنطق والتوازن في مناحي الحياة.
لعلنا نأخذ شيئًا من فلسفة الكندي المالية لنخفف من مغادرة الدنانير من أيدينا، مغادرة لن تعود بعدها كما يقول الكندي، لا سيما فيما لا ينفع.