د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** كان لنا صديقٌ «شاميٌ» صلينا خلفه مرارًا، إذ لم يسعنا الذهاب إلى المسجد في دمشق فكان يجهر بالبسملة، كما أن لنا صديقًا « قصيميًا « يفعل الشيءَ نفسه في الرياض حين يؤمُّنا في صلاةٍ جهرية، ودون تفصيل الحكم التفضيلي؛ فالإمام الشافعي - كما يروي التأريخ - لم يقنت في صلاة الفجر كما هو مذهبه احترامًا لرأي الإمام أبي حنيفة حين صلى في مكان قريب من مقبرته، وائتمَّ الإمام أحمد بمن لا يتوضأُون من أكل لحم الجزور وبعد الحجامة؛ فكيف لا يصلي - كما رُوي عنه - خلف الإمامين مالك وسعيد بن المسيب؟!
** الأمثلة في هذا الاتجاه كثيرة، والمقال ليس فقهيًا كما أن صاحبه ليس متخصصًا غير أنها لغةُ المنطق التي تفتح الفضاءاتِ للحراك الذهني الحُرِّ النائي عن التبعية المنغلقة التي تقضي بما قضى به السابقون دون تفكيرٍ أو محاولة للتفكير، وفي الاختلاف حول الفروع مساحاتٌ للتلاقي.
** وإذا كانت أحكام المسائل التعبدية بهذه الروح المنفتحة؛ فما بال مسافاتنا الحياتية تضيق حتى تبلغ حدًا يُطالِب فيه فئامٌ أن يكون الناسُ مستنسخين لا دور لهم سوى ترديد ما يُقال لهم وإلا عُدُّوا مخالفين لا مختلفين، وحين يكون لأحدٍ موقفٌ من أمرٍ دنيويٍ قابلٍ للاجتهاد، وليكن: السينما أو قيادة المرأة والموسيقى - وكلها قضايا هامشية لا تستحق الالتفات أصلًا؛ أتمت أم لم تتم - فإن النصال تواجه النصال في عراكٍ مدنيٍ حادٍ يستنزف أوردةَ الحياةِ في مجتمعٍ يبحث عن موقعه تحت الشمس.
(2)
** ما الذي يجنيه أبٌ يريد أن يرى أولادَه صورةً منه؟ وماذا يضيف أستاذٌ يُخرج طلبةً مستنسخين منه؟ وهل ينجح مديرٌ لا يجد رأيًا غيرَ رأيه؟ وهل الصوتُ الواحدُ أقوى من الأصوات المتعددةِ متحدةِ الهدف؟ وماذا من إيجابيةٍ في تنمط الأشكالِ وتكرر المضمون؟
** لن نعيا في تحديد الإجابة الحاسمة التي تنعي التماثلَ وترعى التفاضل، ولن نجهل أن التميز يتحقق بالمتمايزين وليس بالمتشابهين، وحين تنوعت الآفاق الفقهيةُ في الفترة الأخيرة عبر فقهاءَ موثوقين أحس الأكثرون بطمأنينةٍ نفسيةٍ لا يغتالُها الضميرُ القلِق، ولا تُحبطُها المدرسةُ ذاتُ الباب الوحيد والحارس الأوحد.
** لا مكان في عالم اليوم لمن يودُّ أطْر المجموع على رأي فردٍ أو مؤسسةٍ أو تنظيم، وهو ما يتطلب من الواجهات الثقافية والدينية والمجتمعية إعادةَ إنتاج مشروعاتها برؤىً مرنةٍ تعتمد التعددية إلى الحد الأقصى كي لا تُواجه المصير الأقسى، حيث انفضاضُ أتباعها وتميعُ أساساتها وتحولُها ومنظريها إلى مسخٍ معرفي أو إداري لا لون له ولا كيان كما لا أفق في غدٍ يتخلقُ بمفاهيمَ لم يعهدها التأريخُ القريب، بل وبعض البعيد.
(3)
** التنوعُ ثراء.