عمر إبراهيم الرشيد
أحرص على قراءة مقالات الدكتور جاسر الحربش الذي أتشرف بزمالته في الكتابة في هذه الصحيفة العزيزة، استزادة في المعرفة والثقافة من رجل في علمه وخبرته في هذه الدنيا. وكما أنه يصف العلاج لمرضاه في عيادته الطبية بعد أن يتحسس مكامن العلل في أجسامهم، فهو يقدم وصفة اجتماعية لمكامن العلل في المجتمع بأسلوب الأطباء المباشر والمختصر، في تحديد الداء ووصف الدواء، وهو يذكرك بأسلوب الدكتور الفذ مصطفى محمود رحمه الله تعالى.
توقفت كعادتي عند مقاله (أصدق وصية ضد التطبيع) يوم الأربعاء الفائت، مقال وجه رداً ثابتاً بلسان كل مسلم وعربي يعي تماماً معاني هويته وحقوقه ويدرك معنى (التطبيع). وكما قلت فالدكتور جاسر أستاذ أتعلم منه، وللتلميذ أن يعقب على حديث أستاذه تذكيراً أو تصحيحاً ولا يقبل ذلك التعقيب إلا الكبار عقولاً ونفوساً. ذكر الدكتور جاسر في حديثه عن استحالة التطبيع مع المحتل مثال العرب في الأندلس، ثم أردفه بمثال الاحتلال الصليبي للشام ومصر، فهل هما مثلان متشابهان ؟. ألم ينتشل العرب تلك الديار من براثن التخلف ودياجير الظلام ؟، أنا لن أطيل في هذا الحديث وسأورد ما قاله مؤرِّخون غربيون منصفون عن حضارة العرب هناك وبشكل عام، لا حديثي أو حديث غيري من العرب. يقول ريتشارد كوك المحامي والسياسي الأمريكي وحاكم ولاية تكساس سابقاً (توفي عام 1897): (إنّ أوروبا لتدين بالكثير لأسبانيا العربية، فقد كانت قرطبة سراجاً وهاجاً للعلم والمدنية في فترة كانت أوروبا لاتزال ترزح تحت وطأة القذارة والبدائية، وقد هيأ الحكم الإسلامي في أسبانيا مكانة جعلها الدولة الوحيدة التي أفلتت من عصور الظلام !) وهذا ضمن كتابه (مدينة السلام).
أما المؤرخ والمترجم الأمريكي افرايم امرتون (توفي عام 1935) فيقول في كتابه (العصور الوسطى في أوروبا): « إنّ الثقافة التي حصل عليها الصليبيون انتزعت الصليبيين من الحياة البربرية ودفعتهم قدماً إلى عالم الحضارة، وكانوا يسمعون من القساوسة أموراً كثيرة عن المسلمين، فلما التقوا بهم وجدوا فيهم إنسانية عالية وشرفاً وشجاعة ووفاءً بالعهد، وقد ساعد ذلك على تكوين الناحية الإنسانية لدى الأوروبيين والتي لم تكن ذات بال عندهم من قبل !). بينما انظر ما كتبه الشاعر والصحافي والروائي الفرنسي أناتول فرانس والمتوفى سنة 1924 فقال (إنّ أشأم يوم في التاريخ هو يوم معركة بواتيه (بلاط الشهداء) في فرنسا حين تقهقرت العلوم والفنون والحضارة الإسلامية أمام بربرية الفرنجة !). تأملوا في إنصاف هذا الإنسان الفرنسي وحديثه عن بني جلدته وتبجيله للحضارة العربية الإسلامية، ومعلوم أن معركة بلاط الشهداء حدثت على بعد ثمانين ميلاً تقريباً من باريس بقيادة عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى، ولو كتب الله النصر للمسلمين يومها لأصبحت أوروبا أو أجزاء كبيرة منها إسلامية.
في المقابل، وصف الراهب روبر وقد شهد وقائع الحملة الصليبية على القدس، قائلاً (كان الجنود الصليبيون يسيرون في الطرق والساحات العامة ويصعدون إلى سقوف المنازل فيقتلون الأطفال ويقطعونهم قطعاً، لا يرحمون ضعيفاً ولا عاجزاً ويشنقون الناس بالجملة ويبقرون البطون بحثاً عن الذهب، وقد سال الدم في الطرق أنهاراً ولم يكن بين هؤلاء جميعهم رجل واحد يتحلّى حقاً بروح مسيحية مسالمة). إلى اللقاء