نجيب الخنيزي
القضايا والتحديات الكبرى، التي دشنها القرن العشرون المنصرم، لا تزال تتمتع بحضورها وراهنيتها ربما أكثر من أي وقت مضى.
صحيح أن القرن العشرين هو أكثر القرون حسماً في تدشين انتقال البشرية إلى مرحلة جديدة من حيث التطور الحضاري والتقدم العلمي والتكنولوجي العاصف، غير أنه في الوقت نفسه من أكثر القرون التي مرت في تاريخ الإنسان من حيث حجم الدمار والخراب والدماء التي سالت من أجل تحقيق المطامح والمطامع الأنانية المفرطة للقوى المتسلطة، استطاعت خلالها الرأسمالية الظافرة توحيد العالم وفقاً لمصالحها وعلى شاكلتها والانتقال به والتكيف معه ابتداء من المرحلة الكولونيالية (الاستعمار) ومروراً بالإمبريالية، وأخيراً عبر العولمة (المرحلة الراهنة في تطور سيطرة رأس المال) التي نعيش إيقاعها اليوم والتي اعتبرها منظرو العولمة والليبرالية الجديدة أنها تمثل نهاية التاريخ وخاتمة البشر.
شهدت البشرية منذ أواسط القرن التاسع عشر محاولات وتجارب هامة (مسرحها الغرب في الغالب) على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، للتحرر من سلطة رأس المال وهيمنته الغاشمة. وتمثل ذلك في التجديد الفكري، الاستنارة، العقلانية، والجهد المعرفي والكفاح الذي قاده المفكرون والمناضلون والنقابات العمالية والأحزاب السياسية ومختلف تكوينات المجتمع المدني، و التي نجمت عنها المواجهات والصدامات بين العمل ورأس المال، وتشكل ما يعرف بالأمميات الثلاث، وبلغت ذروتها في ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا بقيادة البلاشفة، وما أعقبها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية، من انقسام أوروبا والعالم إلى معسكرين متضادين المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.
استمرت المواجهة بينهما (الحرب الباردة) لعدة عقود حتى سقوط جدار برلين وانفراط المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي. ومن الواضح أن الثورة الروسية كانت تمثل أول رد عملي في تحدي تسلط رأس المال بغض النظر عن المآل التاريخي والفشل الذي آلت إليه.
ومع أن معظم شعوب العالم الثالث التي تم إخضاعها من قبل نظام السيطرة والهيمنة الغربية بشقيها المباشر (الاستعماري) وغير المباشر (الإمبريالي) استطاعت تحقيق استقلالها السياسي، وإنجاز خطوات ملموسة على صعيد التنمية والتطور الاقتصادي المستقل، غير أن الرأسمالية بفضل مرونتها المدهشة، وقدرتها على إدارة أزماتها الدورية أو الهيكلية باقتدار، واستفادتها من التطور العاصف للتكنولوجيا والعلوم في مختلف المجالات، ومن خلال تقديم التنازلات الضرورية في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً إبان احتدام المواجهة مع الاشتراكية وحركات التحرر الوطني، استطاعت استعادة زمام المبادرة، وإعادة فرض هيمنتها من جديد.
وبطبيعة الحال فإن هذا يعود جزئياً إلى الإخفاقات أو الممارسات والتجارب الفاشلة التي مرت بها الاشتراكية، خصوصاً في مجال الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والمشاركة الشعبية، والتداول السلمي للسلطة، وذلك على الرغم من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الملموسة التي تحققت.
أما في البلدان النامية فإن قصور وفشل التنمية المستعارة، وسيادة النظم المستبدة، التي ينخرها الفساد ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية للإنسان، أوقع تلك البلدان من جديد في أحضان التبعية والإلحاق، واستعادت المجاميع الكمبرادورية والمتحالفة والمرتبطة عضوياً بمراكز السيطرة العالمية لهيمنتها الاقتصادية والسياسية من جديد.
لقد تطورت وتنوعت أساليب وأدوات الهيمنة والسيطرة في ظل العولمة التي تقودها الشركات متعددة الجنسية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ونادي الثماني الكبار الذي أصبح بمثابة الحكومة الخفية التي تدبر شؤون العالم وتسعى إلى فرض إرادتها ووصايتها على كافة مناحي الحياة فيه مستهدفة تطويع اقتصاديات وثقافات وأسلوب حياة البشر وفقاً لهيمنة نمط اقتصادي وثقافي وقيمي وحيد.
بطبيعة الحال لا يمكن تجاهل دلالات تصاعد الاحتجاجات والمظاهرات ضد العولمة وسياساتها المدمرة التي اندلعت وانطلقت من قلب ومركز المنظومة الرأسمالية العالمية على غرار حركة احتلوا وول ستريت في الولايات المتحدة، ومظاهرات ميونخ الأخيرة والتي شارك فيها مئات الآلاف، وهما نموذجان لطبيعة المواجهة والصراع الذي سيحتدم في الغرب لا محالة في المرحلة المقبلة.
كما سيتحتم على البلدان النامية (الأطراف) المشاركة بقوة وفاعلية من أجل إقامة بيئة عالمية بديلة، تستند إلى معايير الحق والعدالة والمساواة بين الدول والشعوب والجماعات والأعراق والأفراد على حد سواء وهي لن تكون بالتأكيد عبر نظام العولمة الجائر السائد حالياً.