تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
إن تصوره الجديد عن وحدة الدين والدولة في الإسلام ربما لم ينبع من قناعة داخلية بل ربما لتأثره بروح العصر. وأشار بايندر - بحق - في عام 1988 إلى أن «الليبرالية المصرية لم يعد من الممكن أن تستند على حجج علي عبد الرازق، إذا كان يراد لها النجاح». (75) وفي مناخ تسوده خيبة الأمل، ربما شعر خالد بأن تكتيكه قد يكون مؤثراً؛ ولكن من المشكوك فيه أن الأسلوب الذي اختاره نجح فعلا في تعزيز قيم العقلانية والديمقراطية.
كتابات خالد، بعد عودته إلى دائرة الدين، تسببت في غضب عارم من البعض؛ لأنه تخلى عن حمل راية علي عبد الرازق الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، وليس بسبب مناصرته القوية للديمقراطية التمثيلية. تراجع خالد والإيحاءات الإسلامية في كتبه الجديدة لم تؤد إلا إلى إبراز التفوق والتفرد الإسلامي في عقول القراء وجلب الدعم لدعاة الإسلام. وجاء في كتابه «دفاع عن الديمقراطية» (عام 1985): إجمالاً «تقدم الإسلام على العالم بأكمله في تحقيق الديمقراطية بعكس كل الإمبراطوريات المحيطة به: الرومانية والفارسية والإثيوبية. وكانت جميع تلك الإمبراطوريات إمبريالية ومستبدة وديكتاتورية. وجاء الإسلام وقدم الحرية والعدالة والحقوق الفردية». (76) وأثار هذا النوع من السفسطة غضب بعض «المستنيرين الإسلامويين» الذين لقبوا خالدا بعدو الشريعة لمحاولته إدخال مفاهيم غربية خاطئة في الإسلام مثل تشبيه الديمقراطية بالشورى وتشبيه الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية. وجادلوا بأن هذه التصورات تضع العقل البشري في مركزها، بينما الإنسان في الإسلام ملزم بخدمة الله. (77) وللسبب نفسه، شجب الإسلامويون كاتباً آخر هو حسن حنفي لتشكيكه في بعض أفعال النبي. (78) وفي نهاية المطاف، فإن اعتراف خالد وزملائه بالطبيعة السياسية للإسلام واستعدادهم خوض حوار مع الإسلاميين في عقر دارهم كان يخدم فقط مطلب الإسلامويين لتأسيس حكومة إسلامية في مصر.
ومع بزوغ الصحوة الإسلامية في السبعينيات، توقفت الدعوة إلى تطبيق الشريعة عن كونها حجة قانونيه في حد ذاتها، وأصبحت مدونة ثقافية تحدد الحلال والحرام في الخطاب العام. وأثر هذا التحول أيضاً على المؤسسة الدينية التي كانت تؤيد هدف أسلمة الحكومة والفضاءات الاجتماعية. وفي هذه البيئة، وبعد أن نزع النظام الثوري الأصول الثقافية والسياسية من الفكر الليبرالي، وجدت الليبرالية نفسها في صراع من أجل البقاء كبديل أيديولوجي مقبول. (79) فقد تخلى دعاتها الأكثر تطرفا، عبد الرازق في العشرينيات وخالد في الخمسينيات، في أواخر حياتهما عن إنكار وجود جانب سياسي في الإسلام. وعبر القيام بذلك، أسهموا، عن غير قصد، في إعادة تعريف الخطاب الثقافي في مصر؛ وهو ما أدى إلى تلاشي جاذبية فكرة فصل الدين عن الدولة، وتلاشي معارضة تطبيق الشريعة الإسلامية. وأوضح تهميش هذه الآراء في الخطاب الثقافي التناقض المستمر بين التقليد وبين الحداثة، كما تجلى في كتابات معاصرة.
وعند هذا الانحسار الأدنى للخطاب الثقافي، تقدم عدد من الكتّاب - الذين عرفوا أنفسهم بحاملي راية الليبرالية - إلى الأمام وجندوا أنفسهم للدفاع عن النظام الحاكم الذي بالرغم من ذلك منحهم دورا ثانويا فقط في تشكيل سياسة الدولة. وكان أكثرهم حزما الكاتب د. فرج علي فودة، وهو كاتب ذو تطلعات سياسية.
تمرد فرج فودة:
الشريعة غير صالحة للعصر الحديث و«العلمانية هي الحل»!!
ولد فودة (1945-1992) في قرية الزرقاء في محافظة دمياط، وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي. وشارك في تأسيس حزب الوفد الجديد في عام 1977، واستقال منه في عام 1984 احتجاجاً على تحالفه مع الإخوان في انتخابات ذلك العام. وبتصميم منه على تهميش التهديد الإسلامي، أسس حزب المستقبل وفقاً لبرنامج ليبرالي خالٍ من العناصر الدينية أو العرقية؛ ولكن الحكومة رفضت منح ترخيص للحزب، على أساس أن بعض البنود في برنامجه تتناقض مع الدستور. وبعد ذلك، خاض فودة الانتخابات البرلمانية كمستقل مرتين؛ ولكنه خسر. وهاجم فودة، في مقالاته وكتبه، الفكرة الإسلاموية بأن تطبيق الشريعة الفوري سيحل جميع العلل الاجتماعية. وعبر تحليل عقلاني نقدي للتاريخ الإسلامي القريب والبعيد، كشف خواء شعار «الإسلام هو الحل» وأكد أنه يشوه الجوهر الأساس للإسلام كدين. وجادل بأن الإسلام لم يفرض مطلقاً نظاماً سياسياً محدداً. ووفقاً لفودة، فإن فصل الدين عن السياسة يخدم أولويات النظام من جهة، وفي الوقت نفسه سيحافظ على الإسلام كمكون ثقافي وأخلاقي للمجتمع وسيحافظ في نهاية المطاف على هوية مصر العلمانية.
ولإثبات وجهة نظره، قدم فودة تحليلا نقديا للشريعة طعن عبره في قدسيتها المفرطة وشكك بملاءمتها للعصر الحديث. وأكد أن الجزء الرئيس من الشريعة تطور في ظروف مضطربة هيمن عليها صراعات على السلطة وسفك الدماء والمعاناة الاجتماعية والفساد. وهذا ينطبق حتى على عصر الراشدين (632-61)، الذي يمثل العصر الذهبي للإسلام في نظر الإسلامويين وهو العصر الذي جرى فيه اغتيال ثلاثة خلفاء. افتتاح واختتام ذلك العصر قام على الحرب والعداء، أبو بكر وحروب الردة (632-634)، ونضال علي لتوحيد المسلمين تحت حكمه (656-661)، وستصبح الحروب والعداوات في نهاية المطاف أكثر أهمية من تقوية الأسس التي تقوم عليها الدولة. واعتبر فودة أن عهد عمر فقط هو الذي قدم مثالا جيداً للحكومة الإسلامية، ولكن كان هذا الاستثناء وليس القاعدة التي تجلت في الكوارث والصراع الداخلي؛ وهي سمات تجلت بشكل أكثر وضوحا خلال عصري الأمويين والعباسيين (750-1250)، الذين لم يتميزوا بقدرات وتقوى الخلفاء الراشدين. (80)
وعبر إنكار قدسية الشريعة ودعوته إلى اتباع جوهر الدين بدلا من حرفية النصوص كان فودة يهدف إلى تعزيز معنى النسبية التاريخية، وزيادة الانفتاح الثقافي على العصر الحديث. (81)
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى