د. صالح بن سعد اللحيدان
الذي يقرب أن أقطع به أن كثيرًا من الناس اليوم لا يقرؤون، ولستُ أظنهم إذا قرؤوا إلا يقرؤون الخفيف من القول. ولعل سبل التواصل الاجتماعي ألهت الكثير عن أساسيات العلم.
والذي أقلقني في كثير من المؤتمرات العلمية والندوات أنها حينما تعرض علي أجد أن بعضها قد أخذ من الإنترنت مع تغيير طفيف، ولا يقصد كثير منهم السطو إنما الاقتباس مع الإضافات من قبل ومن بعد، وهذا ما جعلني أنحو باللائمة على كثير من الزملاء من كبار العلماء والباحثين الذين أجد منهم تجاوبًا كريمًا حينما يتضح لهم المسلك الذي يحسن المسار عليه.
وكثير منهم إنما يأخذ من المواقع من باب الاختصار ليس إلا؛ لأن الرجوع إلى المطولات وكتب الفروع هذا يأخذ الوقت كله، ولكني مع هذا أنحو كذلك باللوم الشديد على الكثيرين.
وقد وجدت هذا عند بعض كتّاب الصحف والمجلات، بل قد وجدت أن بعض الكتاب يطرح مسألة علمية غاية في الصعوبة من خلال الطرح والاستشهاد، وهو بعيد عن هذا التخصص كل البعد، أقول كله، وإنما نقل فقط وأضاف، وهذا شيء يقلق ويتعب المتلقي إذا كان ذا خلفية؛ لأن مثل هذا الكاتب قد يخرم المسألة، أو يورد ما يؤيد رأيه فقط دون تأصيل للمسألة وذكر الأقوال والأدلة وما يجري على ذلك من الضوابط.
وعود على بدء أبين هنا حال (أن) الناصبة، التي تفردت عن غيرها بعمل يحتاج إلى فهم خاص وإدراك خاص لتنزيلها على العمل المراد، وكنت قد بينت أمرين في حال الفعل المضارع، هو أنها تعمل ظاهرة، وتعمل في حال إضمار.
والآن أبين أنها تعمل خلاف ما تقدم، وذلك إذا اقترنت أن بحرف واحد من حروف العطف الأصلية، وقد تقدمها، وهذه المسألة بالذات تحتاج إلى سعة بال وشدة فهم وتحرٍّ؛ ذلك أن هذه المسألة من دقائق المسائل في الكتاب والسنة وفي الشعر العربي قبل الإسلام.
ولكي يتضح هذا لا بأس بضرب المثال، ومثال ذلك (قيامك فتكسب الخير أجود عندي من قعودك وفشلك). وأنت ترى قارئي العزيز أن هذا المثال يحتاج إلى إيضاح، ولاسيما أن المصدر (قيامك) تقدم على الفعل، وهذا فيه غموض للوهلة الأولى، فإن (فتكسب) منصوبة بأن المضمرة، وهذا يُحس بالسليقة لمن أوتي ذوقًا نحويًّا، وأكثر النظر في كتب النحو والحديث ومعاجم اللغة وتحلى بقوة التأمل العقلي، لا ذاك النظر العاطفي العجول.
وهذا وإن كنت أختصره فإنما قصدت الذكرى لكي يعود الناس إلى مطولات العلم وكتب الفروع، ويجعل الوسائل الحديثة معينة فقط، وليست أصلاً لأخذ العلم ونقل العلم ونشره وذيوعه.
ولعل في النوادي الأدبية والمراكز العلمية المتخصصة وكذا المجلات المحكمة وما يكتبه الكتاب في الصحف من زوايا وأبواب ما يجب معه العودة إلى ما عاد إليه حماد بن سلمة وحماد بن زيد وأيوب السختايني وقتيبة بن سعيد بن جميل والترمذي، وما عاد إليه الأصمعي وابن جني والفراء، وما عاد إليه في حين من الدهر أبو حيان التوحيدي وابن منظور والجوهري والفيروز أبادي.
ولعل في كلامي هذا ما يغني قليله عن كثيره.