د. إبراهيم بن محمد الشتوي
إذا كانت الشعبية هي كسب رضا الشعب من خلال تحقيق المعايير التي يتطلبها فإن هذه المعايير قد نشأت من تجارب، وخبرات سابقة، وتكونت من البيئة التي نشأ فيها «الشعب»، وهذا يعني أنها ليست بالضرورة موضوعية، وهو ما يدل على أن الشعبية ليست بالضرورة محمودة، أو أن تحصيلها لا يعني بالضرورة أن صاحبها على صواب؛ الأمر الذي يوصلنا إلى قضية العلاقة بالجمهور «الشعبية»، فالجمهور الذي يحيط بالقائد له متطلباته، وتوقعاته، وشروطه التي يفرضها على من يحبه، ويمنحه ثقته، فإذا لم يحققها الشخص (لنقل: النجم) فإن الجمهور قد يكون له موقف آخر، فإذا كان هذا الجمهور قد اعتاد على المحاباة، والاعتماد على معايير تتمثل بالقرابة، والجهة، والعناية بالمصالح الشخصية الفئوية الضيقة، فإن شعبيته ستكون قائمة على من يحقق هذه المعطيات، ويتوافق معها. ولأن هذه العلاقة قد تكون مغرية لبعض الناس، لا يريد أن يخسرها، فإنه يستجيب لما يضمنها له، ويتراجع عما يراه صوابًا، أو ما يؤمن به حفاظًا عليها. وهذا ما يعني أن «الشعبية» سلاح ذو حدين.
وقد كان الراحل واعيًا بهذه العلاقة الخطيرة، والحالة التي ينجذب فيها «النجم» للهالة التي توفرها «الشعبية»، فيستسلم لها، ويتحول من مركز التوجيه، واتخاذ القرار، لأن يكون صدى لهذه المجموعة، أو تلك، يستجيب لما يملونه عليه، ويحقق رغباتهم منه. وحين تكون هذه الجماهير «الشعبية» متكونة من العامة، وأنصاف المتعلمين، فإن الهرم القيادي ينقلب على رأسه، ويصبح غير قادر على اختيار الوجهة الصحيحة.
هذا الوعي لدى الراحل لا يتوافر لدى كثير ممن هم محط الأنظار؛ لذا نجد آراءهم تتقلب، ومواقفهم تختلف، لا بحسب ما يرونه، أو بحسب ما تبدو لهم الحقائق، وإنما بحسب ما يضمن لهم «الشعبية»، ويكفل بقاءهم في دائرة الأضواء، وهنا يتحول هو نفسه من قائد إلى عضو في مجموعة، ومن صانع للوعي إلى واحد من الغوغاء، يحظى بمنزلة أكبر من غيره.
ولأن الراحل أدرك هذا، ولم يستسلم «للشعبية»، أو يسقط في هالتها، فهي لم تكن عيبًا، ولا سببًا للطعن في أهليته، أو معنى يفسر من خلاله مواقفه، بدليل أنه لا يبالي بها حين يراها لا تتوافق مع المصلحة العامة التي اتخذها هدفًا له فيما يأخذ أو يذر. المصلحة العامة التي لا تأخذ بحسبانها الفئة الضيقة التي ينحدر منها، أو التي تضمن مصالحه، سواء كانت جهوية، أو طائفية، أو قبلية، أو فئوية.
وهنا نأتي إلى الفرق بين «الشعبية» و»الشعوبية» التي في أساسها تستمد قوتها من الشعوب التي تجد نفسها خارج النسيج الاجتماعي الرسمي؛ ما يشعرها بالغبن، وضياع الحقوق؛ وهو ما يجعلها بدوره تتعصب لمصالحها، دون النظر إلى ما يسوغ هذا التعصب، أو يبرر الحصول على المصلحة بوصفها حقًّا لها. وهنا تجد نفسها في مواجهة مع المؤسسة الاجتماعية؛ فتتحول إلى فئة لا تراعي القوانين، ولا تؤمن بها، كما لا تعتبرها (القوانين) ممثلة لها، ومن هنا فهي تسعى إلى أن تتجاوزها ما دامت بمعزل عن المحاسبة. وهنا تتحول «الشعوبية» إلى داء، وخلل ينخر في منظومة القيم الاجتماعية، ويهدد كيانها، وتصبح معضلة تحتاج إلى حل، وليست صورة من صور الوقوف ضد الظلم، أو التهميش، والإقصاء.
على أننا حين نتأمل هذه الرؤية «للشعبية» لا نجدها تختلف عن رؤية غازي القصيبي العامة في تصريف الأشياء، فالدكتور لا يولي اهتمامًا كبيرًا «للعدد»، و»الكثرة»، و»الحشد»، و»الجماهير»؛ إذ إن هذه القضايا أو المفردات لم ترد في حديثه كثيرًا، ولا تشكل «وصفة سحرية» ينبغي أن يتمكن منها لتكون طريقًا لتحقيق الأهداف، أو أنها وسيلة تحديد الصواب من الخطأ.
بل إننا نجد أنه يمكن أن يحسب من أنصار «النخبة» والمؤمنين بها على «الجماهير»، و»الخاصة» على «العامة». هذه النخبة تبدأ بالتكون - على رأيه - من الجامعة التي ينبغي أن تكون خاصة للمتميزين، وأصحاب المعدلات العالية، فتكون مكانًا تمنع الجماهير من دخوله، ويأخذ فيه الداخلون العناية الكاملة من التعليم، والتدريب، حتى إذا تخرجوا وجدوا أماكنهم في المؤسسة الإدارية جاهزة؛ ليساهموا في التنمية الشاملة للمملكة.
وهنا تتحول القيادة والعاملون في الدولة - كما يرى - ذات مواصفات عقلية معينة، تم اختيارها من الجامعة، وإمكانيات علمية ومهارية تم تعليمها وصقلها في الجامعة أيضًا، ولن يكون لمن لم يدخل في تلك المؤسسة «العصيبة» الجامعة طريقًا إلى الدخول في المواقع المهمة في المؤسسة الإدارية. سأتوقف هنا وأكمل في المقال القادم.